الأحد، 29 سبتمبر 2013
دار المأمون تعقد مؤتمرها الدولي الثالث للترجمة بحضور اكثر من 70 دولة اجنبية
حديث الصدى / حوار مع الدكتور محمد ايت لعميم
قصص ادواردو بيرتي
إعداد وتقديم وترجمة:د.محمد آيت لعميم:
ولد الكاتب الأرجنتيني إدواردو بيرتي في مدينة بيونس آيرس عام 1964، التي سيغادرها سنة 1998 ليقيم في باريس تسع سنوات، وفي سنة 2008 سيستقر بمدريد، وهو كاتب وصحافي، ومترجم.
ولد في المدينة التي أنجبت كتابا عظاما بصموا تاريخ الأدب بأعمالهم الخالدة، من أمثال خورخي لويس بورخيس، وارنستو سباتو، وخوليو كورتثار، وروبيرطو آرلت، وماسيدنيو خيرناندز، وألبرتو خواروث، وسلفينا أوكامبو، وبيوكاساريس... فهو يعتبر من بين كل الكتاب الأرجنتين اليوم، بلا شك، الوريث الأكثر وفاء للتقاليد الفنطاستيكية وللنص القصير. ويعد الأكثر أهمية والأكثر موهبة في الجيل الجديد في الكتابة القصصية والروائية في الأرجنتين.
فرض ادواردو بيرتي نفسه من خلال كتاباته باعتباره وريثا حقيقيا للتقاليد البورخسية ولكتاب آخرين، وله ميل غريزي إلى المحكي القصير إذ يعتبره ذا قيمة في ذاته، لا ينبغي أن نعده كالأفلام القصيرة بالنسبة إلى الأفلام الطويلة: وسيلة للتعلم.
لقد أبان Berti في كتاباته عن براعة فاتنة، وعن حس سحري في الإخراج، وعن تشابكات سردية متاهية. عوالمه مليئة بالمفارقات والانتحالات، يلعب من دون أن يخفي المرجعيات التي يحيل عليها في قصصه التي هي نوع من اللعب التجريدي الدقيق والمبهج، المليء بالإشارات والإحالات إلى نصوص أخرى. كروايته 'السيدة ويكفيلد' التي هي تنويع ماهر على القصة الشهيرة لناتانيال هاورتون 'السيد ويكفيلد'، ومجموعته 'حياة لا تحتمل' الباذخة بالتصاوير الفنطاستيكية الصغيرة، ومن قصص قصيرة على منوال 'نوادر' بورخيس، فهي قصص ميكرو، حول فنانين غريبين، وكتب نادرة، وظواهر فنطاستيكية مختلفة. وفي مجموعته الأخيرة Linoubliable (ما لا ينسى) يتابع هذا المسار، فيتحدث عن هاجس المعرفة الكلية، والعود الأبدي للشيء نفسه. وقد تجلى أثر بيوكاساريس فيها، من خلال ديكورها الشعبي وشخصياتها البسيطة، وسردها المباشر بأسلوب واضح سلس، فهنا لا وجود لميتافيزيقيين أو أدباء مهووسين بالكتب أو مرجعيات أدبية على الطريقة البورخيسية، فبيرتي يقترح شخصيات من القراء العاديين الذين يدمنون على قراءة صحف اليوم كلها، معتقدين أن ما لم يطبع لا وجود له.
تجعلك قصصه تفتح نوافذ جديدة على عالم الأدب والحكي، وقد برهن على أن الإبداع يخرج من رحم التقاليد والموروث الأدبي.
ينتمي Berti إلى تقليد أدبي عريق أظهر أن الأدب، على خلاف مجالات أخرى، يهتم بالأشياء الصغيرة، وقد كانت تكفيه مجموعته القصصية الأولى 'الطيور'، وروايتان قصيرتان (الفوضى الكهربائية) و(السيدة ويكفيلد) كي يكتسب هذه السمعة.
جاءت مجموعته (حياة لا تحتمل) ' la vie impossible ' لتؤكد هذه الموهبة، إذ من الصعب مقاومة سحر ابتكاراته القصصية، حيث برهن على أنه من الممكن أن نجعل التقاليد تستمر لا تنضب، فهو بذلك جدير بالانتساب للأساتذة الكبار الذين علموه.
فهو في هذه المجموعة التي ترجمت بعضا من نصوصها، لم يطالب بالإنسجام، ولكنه يبدو مستمتعا بتعدد الرؤى للعالم: الهزلية والتراجيدية والعبثية والساخرة واليائسة والشبيهة بالحلم، والمقززة والمرعبة والمستحيلة.
إن ميزة Berti كما يذهب إلى ذلك آلبرتو مانغويل هي أنه 'يعرض أمام القارئ كنزا من الروايات في حالة جنينية، وبذورا لحكايات، ليست في حاجة لتنمو زيادة حتى تمتعنا وتدهشنا.
حياة مزدوجة
عندما أدركت أنه طيلة ثلاثين سنة الأخيرة كان أبي يعيش حياة مزدوجة، استسلمت لمعرفة الأمر وتحريت اسم زوجته الثانية، وعنوان منزلها، طرقت بابها، متذرعا تحت أية ذريعة، تفتيش من لدن شركة التأمينات أو شيء من هذا القبيل. وها هي امرأة كبيرة بوجه كالفرس تدعوني إلى الدخول، لم أصدق عيني: البيت من الداخل نسخة طبق الأصل للبيت الذي كنا نقتسمه أنا وأبي وأمي. الأثاث هو هو، الأرائك نفسها مزينة بالطريقة ذاتها. وموزعة بالضبط على المنوال نفسه، حتى اللوحات، وصحون الخزف الصيني ومنتوجات الجبص كانت هي هي.
عند عودتي إلى بيتنا، خصصت المساء كله، بلذة عدوانية لتحويل الأثاث من مكانه ووضع الفوضى فوق الرفوف، كانت أمي تتابع حركاتي بارتباك، لكني لم أخبرها إطلاقا عن زيارتي للبيت الثاني. وتناولنا العشاء في صمت.
فجأة تذكرت، حينما كنت طفلا، اليوم الذي كسرت فيه المزهرية الصينية التي كانت بجوار الكنبة؛ أن تضايق أبي، حين علم بالحادث، بدا لي غير مناسب، والآن، يمكنني أن أتفهمه، وأن أتخيله، من غد يوم الحادث، في بيته الثاني، وهو يكسر المزهرية الشبيه بعناية فائقة، لا لشيء سوى الحفاظ على التماثل مع بيته الآخر.
هذا الكتاب لا وجود له
رجل يحلم أنه يكتب كتابا. مزحة هي أن يرى في منامه أنه يحتاج إلى وقت طويل كي يجلس، ليكتب، رواية قصيرة من مئة صفحة بسطر واحد عنوانها 'هذا الكتاب لا وجود له'. استيقظ بعد إنهاء كتابتها، ولازال يحس بتنمل القلم الجاف بين أصابعه. نظف أسنانه وغسل وجهه، ارتدى ملابسه ليذهب إلى عمله، وفي مكتبة سرفانتس، حيث يذهب غالبا لأنها في طريقه، وجد من بين الإصدارات الجديدة المعروضة فوق الطاولة المربعة كتابا لا يحمل اسمه ولقبه، لكن يحمل أيضا العنوان نفسه الذي كتبه في الحلم. اشترى الكتاب وأخذه معه إلى مقر العمل بعد مضي بعض الساعات، قفل إلى بيته، تناول العشاء بسرعة ليتفرغ إلى قراءة الكتاب في السرير، لكنه لاحظ سريعا أن الكتاب لا علاقة له بالكتاب الذي رآه في منامه، والأسوأ من ذلك، أنه لم يرقه. رأى فيه ميلودراما لا تحتمل. بالطبع، فالكتاب يحمل اسمه على ظهر الغلاف، وصورته في طيه لم يرها إلا الآن. ما جعله يحس أنه مسؤول عن وجود الكتاب في العالم وهو مضطر إلى إنهاء قراءته. كان الليل متأخرا عندما أطفأ المصباح وخلد للنوم. جاء الغد ولا وجود لأي أثر للكتاب على الطاولة ولا في المكتبة. 'لم أسمع قط بهذه الرواية أعتذر أحد الباعة' في هذه اللحظة، استيقظ الرجل، بحث بلا جدوى عن الكتاب في كل مكان، نهض، نظف أسنانه وغسل وجهه، تكلم في الهاتف باقتضاب شديد، 'آسف...رأسي تؤلمني' 'لا يمكنني-'. ارتدى ملابسه، أعد فنجان قهوة، ثم جلس إلى الطاولة البيضاوية الشكل في المطبخ. كي يكتب رواية حول موضوع رجل يكتب رواية تتكشف، في نهاية المطاف، عن نقيض ما يود كتابته.
العصر الذهبي
بعد مضي أربع وثلاثين سنة على إنهاء لوحة زيتية من حجم صغير بعنوان 'العصر الذهبي'، قرأ رسام سويسري مغمور ـ بالصدفة-، أنه في أحد المعارض الجماعية للفن التجريدي المقام بالنمسا، اعتبرت لوحته هي الأفضل. كان الناقد يتحدث 'عن اكتشاف متأخر لهذا الفنان'، وقد كان دعا إلى إقامة معرض خاص لأعماله، وتجاسر -أيضا- في اللعب بالكلمات، وهو لعب صبياني طبعا، بين عنوان اللوحة وبين السنوات التي مرت عن ابتكاره الفتي.
تطلعات الفنان السويسري المغمور، لمعرفة ما الذي سيحققه من حصده للمديح، وأسره لنظرات الإعجاب، جعلته يستقل القطار إلى فيينا. حيث سيكتشف أن اللوحة المحتفى بها كانت لوحته، لكنها كانت معلقة بطريقة مقلوبة بسبب إهمال فظ للمسؤولين على المعرض. لقد اكتشفوها وهي 'مقلوبة فاللوحة المحتفى بها كانت له ولم تكن له. لكن لا أحد، سواه وسوى خبيرين من بلده أنهكتهما الشيخوخة، كان قادرا على ملاحظة أي شيء. لأن توقيعه كان عبارة عن حرف X الذي كان يقرأ بالطريقة نفسها في جميع الاتجاهات، ولأن رسومه الزيتية كانت حتى هذا الوقت مجهولة لا تختلف عن أي عمل لم يعرض من قبل.
شيء ما لمع في ذهنه، فاستشف الفنان المستقبل سيتلقى التشريفات، سيتلف كل الكاتولوغات القديمة حيث هذه اللوحة ولوحات أخ رى تبدو في وضعها الطبيعي، وسيصل إلى النهاية حيث سينظم معرضا فرديا، سيجعله مكرسا، بخمسين لوحة هي الآن مهددة بالنسيان، ومنذ الآن، وبلياقة سيعرضها كلها مقلوبة.
فنان ومقلده
تمكن فنان إيطالي مشهور من الحصول على رقم هاتف مقلده الذي، حسب الفنان، كان يحاكيه بموهبة عالية. فاقترح عليه أن يقيما معرضا مشتركا، تحت عنوان الفنان ومقلده، 'هذه المرة، سمع المقلد، أنت حر في أن تقلد بدقة، لكن مقابل ذلك، يجب أن تبتكر لوحات تليق، في أعين الجمهور، بالمنافسة مع اللوحات الأصلية'.
خائفا يترقب من أن لا تكون هذه المحادثة سوى فخ نصب له، وأن تكون قد سجلت كي تستغل ضده، شرع المقلد ينفي أنه لم يقلد أحدا أبدا، لكنه كان منجذبا لإمكانية الاحتكاك بفنان كبير، كان متحمسا جدا لفكرة أن يكون قادرا على الابتكار بحرية مطلقة، فبعد أن استشار محاميه، قبل بهذا الاقتراح الجريء، شريطة أن لا تحمل لوحاته أي توقيع، لأنه ـ حسب قول رجل القانون- 'أي توقيع من بين هذين التوقيعين الممكنين سيشكل اعترافا بالجنحة'. قبل الفنان الإيطالي هذا الشرط، واقترح عرضا مغريا يستحيل رفضه. فطلب أحد عشر لوحة مطابقة 'لمرحلته الزرقاء'، أو إن أردنا، لأسلوبه المكرس ما بين 1990-1996 .
حينما وصلت الأحد عشر لوحة المزيفة، كان الفنان الإيطالي قد أنهى الأحد عشر لوحة الأصلية. ولقد اندهش لاكتشافه أن إحدى لوحات المقلد كانت متشابهة حد التطابق مع إحدى لوحاته الأصلية. من وجهة نظر المعرض، لا يطرح هذا التشابه مشكلة، بالعكس، كان الفنان يرى فيه جاذبية وسحرا. ما كان قد أقلقه فعلا، هو تفوق اللوحة الهجينة. إلى حد أنها كانت بدت وقد حلت بسطوة كبيرة المشاكل التي كانت تؤرق، باحتشام، اللوحة الأصلية.
بعد افتتاح المعرض بأسبوع، حضر الفنان المجهول إلى الرواق. كان متسترا، على نصائح محاميه اليقظ، فأطلق صرخة إذ رأى، من بين الأحد عشر لوحة المعلقة على اليمين ('لوحات المقلد' هكذا تقول لوحة مكتوبة تحتها) عملا لم يكن له، وبالعكس من ذلك، رأى من بين اللوحات المعلقة على الشمال، لوحته التي اعتبرت إبداعه الممتاز، متوجة بالتوقيع المتفاخر للفنان الإيطالي.
الموهبة
مثلما كان فونيس الشخصية التي رسمها بورخيس، كانت أمي تتمتع بأعطية، وهي معرفة الوقت بالضبط من دون حاجة إلى الرجوع إلى الساعة. مرت عشرون سنة وهي تجهل هذه الموهبة، حتى اليوم الذي، نبهت فيه جارة لنا ـ على ما أذكر- أمي إلى ذلك. منذ ذلك الحين لم تعد أمي في حاجة إلى أن تضع الساعة في معصمها.
عندما كنت طفلا، كانت الدقة التي كانت قادرة بها على قول الساعة والدقائق تذهلني. مع ذلك كانت هذه الموهبة تزعجها ما دامت أنها قد منعتني من إفشاء هذا الأمر خارج دائرة العائلة. كانت لدى أربع عشرة سنة تقريبا، حينما سافرت وأبواي إلى اللوكسمبورغ. كنا نحن الثلاثة في المقهى وراودتني فكرة أن أسأل أمي عن الساعة؟ أجابتني بسرعة لكنها أخطأت، لأنها ذكرت ساعة مستحيلة لمثل هذه اللحظة من اليوم. لقد كانت المرة الأولى التي أراها تخطئ فيها، لكن أبي أشار إلى أنه ليس هناك من خطأ. وأن أمي كانت قد ذكرت لي الساعة بتوقيت بيونس آيرس، فالمواهب مرتبطة، بعمق، بالمكان الذي تلقيناها فيه.
تراجيديا الضياع بين تسلط الأب و فقدان الأم
قراءة في مجموعة " ترانت سيس " للقاصة
المغربية مليكة مستظرف)
بقلم محمد آيت لعميم
* *
* *
ابتداء من لحظة التأسيس التي هيمنت فيها الحبكة
الموباسانية و خيم فيها موضوع الصراع مع الآخر و البحث عن البطل المخلص من
الاستعمار المباشر و مرورا بلحظة التسيس التي بصمت بالصراع بين الطبقات و الفئات
الاجتماعية وظهور البطل الهامشي إلى مسرح الأحداث، ووصولا إلى لحظة التجريب التي
ساد فيها التخريب: تخريب الحبكة وتدمير الحكاية استجابة لسديمية الواقع وفوضاه،
وغياب انسجامه و تناثر عراه، عرفت القصة القصيرة بالمغرب تطورا ملحوظا على مستوى
الشكل و المحتوى، و انخرطت في تجارب متنوعة المشارب واجترحت تقنيات ومذاهب0
يلاحظ المتتبع للمتن السردي القصصي أن هذا الجنس الأدبي له جاذبية خاصة و لديه قدرة على طرح أسئلة جريئة في المشهد المجتمعي الراهن، و ذلك أن مجموعة من القصاصين و القاصات استطاعت أن تنفذ إلى جوهر الخلل في المجتمع من خلال رصد دقيق و تشخيص عميق لمظاهر عدم التوازن الاجتماعي و ما يترتب عليه من معضلات تصيب الذات في مقتل.
و في سياق البحث في العلاقة بين الكتابة و اليومي، هذه العلاقة التي أضحت اليوم مثار اهتمام النقد، لا سيما و أن الكتابة اليوم أصبحت تحتفي باليومي احتفاء خاصا، وذلك لأسباب عديدة منها البحث عن خصوصية الذات في علاقتها بما يجري حولها، ناهيك عن سقوط الأيدولوجيا الكبرى و الأنساق، مما فسح المجال للكتابة أن تسائل الذات في أشيائها الصغيرة وإفشاء الحميميات، اخترت المجموعة القصصية "ترانت سيس" للقاصة المغربية مليكة مستظرف، كمتن لرصد العلاقة بين الكتابة و اليومي.فما هي طبيعة هذه العلاقة من خلال هذه المجموعة؟ كيف تمثلت القاصة جانبا من المجتمع الذي تعيش فيه؟ كيف عالجته جماليا؟ لماذا اختارت الطبقة المسحوقة اجتماعيا و رصدت من خلالها جنون المجتمع و فوضاه؟ ما هي طبيعة المعالجة التخييلية لهذه المعضلات الاجتماعية؟ لماذا هذه العودة إلى بناء الحكاية بدل تدميرها ؟ و لماذا العودة إلى كتابة الواقع؟
سأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تحليل المتن الحكائي للمجموعة القصصية و تتبع الموضوعات المتواترة في ثناياه.
تتكون المجموعة القصصية ترنت سيس من عشر قصص هي كالتالي: مجرد اختلاف، ترانت سيس، امرأة جلباب، وعلبة حليب، امرأة عاشقة امرأة مهزومة، الهذيان ، الوهم، اختناق، مأدبة الدم ، الخدعة، يوم من حياة رجل متزوج.
اختارت القاصة عنوان المجموعة من عنوان القصة الثانية هادفة من وراء ذلك الى تبئير العمل برمته في تداعيات الجنون والمرض العقلي، وكل الأمراض النفسية التي تنتج عن خلل في الذات و المجتمع. فترانت سيس حوفظ على كتابتها كما تنطق بالدارجة المفرنسة، حيث تحول هذا الرقم 36 إلى مكان و هو مستشفى الأمراض العقلية بالدار البيضاء و من خلال هذا المجاز المرسل الذي يقتضي التجاوز بلاغيا ، شكلت الحقبة الأولى للنص فهي عبرت بالمحل وأرادت الحال فيه، و من خلال الاستعمال الشعبي لهذا المحل تشكل انزياح دلالي جديد حيث أصبح هذا العدد 36 يلصق بكل تصرف أخرق مجنون. ففي القصة التي تحمل هذا العنوان أصبح العدد 36 هو شخصية الأب الذي يعاني من انفصام في الشخصية.
فهو شخص غير متوازن، يقضي كل مساء سبت مع امرأة غريبة في غرفته وابنته الصغيرة ترى و تسمع كل ما يدور بين الأب و المومس بعد انتهائه من عربدته و فعله الداعر يتوجه للصلاة! إنها قمة الانفصام وازدواجية الشخصية.
مكونات العالم القصصي في المجموعة:
يتشكل العلم القصصي عند مليكة مستظرف من خلال رصد الحياة الاجتماعية للطبقة المسحوقة والفقيرة و غير المتعلمة. هذه القصص و الشخصيات منتقاة من قاع المجتمع. وقد تمكنت القاصة من رصد هذه الحياة بتفاصيلها ويخيل للقارئ أن كل قصة من قصص المجموعة قد استوفت تفاصيل الموضوع المعالج فيها، بلغة تنم عن شراسة وعنف في المتخيل الذي يستمد كل مكوناته في الحياة الواقعية، بعيدا عن التأملات و الخيالات الجامحة ، لقد أنزلت مستظرف كل شخصياتها إلى معترك الحياة اليومية و راحت تنسج خيوط قصصها عبر وصف دقيق يتسم بالتركيز على العنصر البشع وعلى كل ما يثير التقزز والغثيان وكأننا نقرأ أناشيد مالدرور للنوتريامون، أو كأننا نقرأ رواية إميل زولا عصارة الخمر. التي رصدت هي الأخرى بشاعة الحياة في باريس القرن 19، حيث القذارة و الأوساخ و الأمراض و التعفنات و سوء التغذية ، و التفكك الأسري ، و المومسات الصغيرات ، وهموم الطبقة العمالية التي تتجمع في الخمارة التي ترمز للموت البطيء. فالشخصية الرئيسية جرفيز كانت تعيش حياة طبيعية مع الفقر إلا أنها ستجد ضالتها في الخمر لتدخل في متاهة احتضارها.
لقد كان إميل زولا يسعى من وراء هذا العمل القوي إلى إبراز أن عامل الوراثة و الحتمية يؤديان الى الخراب و الضياع، إضافة إلى أنه كان يجرب بعض الأفكار العلمية السائدة في عصره من خلال عمل تخييلي.
لقد عالجت مليكة مستظرف مجموعة من القضايا الشائكة في المجتمع المغربي تخص الطبقة المسحوقة و الفقيرة داخل فضاء مدينة الدار البيضاء التي وصفتها إحدى الشخصيات بأنها مدينة عاهرة تفتح فخذيها لكل القادمين. ص24.
كل قصة من قصص المجموعة ترصد عالما مستقلا و موضوعا خاصا رغم تواتر بعض التيمات المركزية الناظمة لعالم هذه القصص كتيمة الأب المتسلط العامي الذي يعيش طيلة حياته بأحكام جاهزة وقيم بالية و عقلية متهالكة تلقاها بعيدا عن المعرفة و التعلم، فقط هي أفكار منهكة ورثة تعشش في ذهنية ذكورية مريضة و متحجرة عاشت على التقاليد المغلوطة و على الوهم و تيمة الأم المفقودة أو العاجزة، هي الأخرى غير المتعلمة تعيش في ظلمات الجهل و الأمية. أن الرجل و المرأة في عالم هذه المجموعة كلاهما ضحية للفقر و غياب التربية السليمة التي تؤهل إلى توريث تربية سليمة للأبناء.
فالأب في قصة ترانت سيس يبعث بطفلته الصغيرة عند البقال بإبراهيم الذي يبيع في حانوته كل شيء : مواد غذائية و خمور رديئة ناهيك على أنه يعالج مرضى الحي بوصفات عجيبة. لتقتني له كل مساء سبت قنينتين من صنف عايشة الطويلة الذي ظلت الطفلة تعتقد أنها امرأة طويلة لتكتشف أخيرا أنها اسم لصنف رديء من الخمور . فماذا سيورث هذا الصنف من الآباء الداعرين العربيدين أطفالهم سوى الرذيلة الهابطة و عدم التوازن النفسي.
لقد عالجت في القصة الأولى : مجرد اختلاف، قضية الخنثى ، وإذا كانت هذه المشكلة قد عالجها مجموعة من الكتاب الذين اتخذوا فكر الاختلاف منهجا في الكتابة والحياة كالخطيبي ، فإنهم قد عالجوها في إطار فلسفي تأملي باعتبار الخنثى حقلا خصبا لتجريب مفاهيم الاختلاف, فان القاصة مليكة مستظرف أنزلت عالم الخنثى من عالم التأمل لتزج به في الواقع اليومي ورصد معاناته الناتجة عن عدم تفهم الآخر لاختلافه الجسدي.
تبدأ القصة بمشهد دال، شارع في آخر الليل ، صامت و فارغ و كئيب، لا وجود إلا لبعض القطط الضالة تموء بطريقة مخيفة كبكاء طفل رضيع، كلبة وكلب يلتحمان وينتشيان، يحس السارد/ الشخصية الخنثى بخدر لذيذ يسري في جسده. يدخل في مونولوغ : كم هما محظوظان يفعلان ذلك الشيء أمام الملأ: ربي يشوف و العبد يشوف. لا يخافان من لا رافل أو من كلام الناس. سرعان ما يتوقف مشهد الانطلاق ليظهر في مسرح الأحداث بوشتى حامي المومسات الذي أفسد على السارد الشخصية لذته في مشاهدة عملية الالتحام الكلبي صارخا بكلام عامي بذيء ينم عن عدوانية مجانية، رماهما بحجر فافترقا و قد صدر عنهما أنين كالبكاء.
إن هذه الجملة المفتتح تهيئ القارئ لما سيأتي من أحداث فالقصة برمتها تحكي معاناة هذا الشخص المختلف جسديا و قد بدأت هذه المعاناة من خلال ابتزاز بوشتى لهذا الخنثى فهو يأخذ نصيبه عن كل عملية مقدما ص10 ومن مضايقة الملتحين له الذين يريدون تنظيف المجتمع، فقد تعرض من طرفهم الى حلق شعر رأسه, وقد ظلت هذه العملية تحز في نفسه لان شعره كان طويلا و أشقر كشعر الخيل ثم من خلال تعنيف أبيه له وقد فاجأ أمه و هي تسرح شعره و تضع احمر الشفاه على خده و تعقص شعره على شكل إسفنجة ، ذلك اليوم ضرب الأم حتى تغوطت وقال لها: هاد الولد غادي تخرجي عليه سيصبح خنثى!. وعلى اثر هذا الحدث فرض عليه أبوه أن يقرأ القرآن ليترجل أي يصير رجلا . وعقوبة كتلك التي يعاقب بها الأطفال من طرف معلمين يجدون لذة في عقوبة الأطفال و هي أن يكتب ألف مرة : أنا رجل . لكن الطفل المختلف جسديا يظل يتراوح بين رغبة الأب أن يكون رجلا و رغبة الجسد أن يكون امرأة. و حتى المهنة التي كان يتمناها هذا الطفل تتضمن في جزء منها إشارة الى الرغبة الجنسية الشاذة. سأله أبوه آش بغيتي تكون في المستقبل؟ أجاب الطفل بيلوط أي ربان طائرة إن جزءا من الكلمة يشير إلى لوط و إلى تداعيات اللواطية. و في المؤسسة التعليمية يعاني من قسوة أستاذ اللغة العربية الذي ضبطه يتحسس مؤخرته لما سمع في درس النحو أن المفعول به يكون منصوبا بالفتحة الظاهرة في آخره، ومن أستاذ التربية الإسلامية الذي يقول: إن الفاعل و المفعول به في نار جهنم. ومن المفارقات أن هذا المدرس يتحرش به ويلمس وجهه برفق ولطف . أصدقاؤه في الفصل يسخرون منه. يدخل حمام النساء فيلفظ لفظ النواة. يدخل حمام الرجال فيطرد أيضا ويقال له: أنت امرأة سيري لحمام النساء. إن المجتمع يتعامل بخشونة و أحيانا بلا مبالاة قاسية بلا سبب يشتمونه في الشارع.
و أخيرا وأمام هذا الضياع وهذا التضييق و رفض المختلف يبقى الحل هو الاقتناع بان الجسد لا يختاره صاحبه هو خليقة الله حتى الطبيب الذي يجسد المؤسسة العلمية تعامل معه بمنطق الربح وبلغة لا يفهمها، حدثه عن الهرمونات و الجينات و الكروموزومات، وقد انتهى معه في الأخير إلى دفعه إلى تقبل جسده.صديقته نعيمة المومس قالت له نفس ما قاله الطبيب لكن بلغتها الخاصة.
و يبقى السؤال المشكلة هو كيف يقنع الآخرين باختلافه؟
طرحت القصة مشكلة الخنثى من منظور واقعي اجتماعي، ورصدت بدقة رد فعل المجتمع بمستوياته و بمؤسساته المتعددة، وكان رد الفعل هو الرفض، وفي أحيان قليلة كانت هناك دعوة للتعايش مع هذا الجسد المختلف وقد كان خطاب القصة يسعى الى تركيز نقطة لدى المتلقي : وهي انه لا حل لهذه المعضلة الا في إطار الاختلاف. وقد نجحت القاصة في خلق نوع من التعاطف اتجاه الشخصية الضحية السارد. و قد عولج الموضوع في إطارين دائري يوحي بان المعضلة مستحكمة، وان هذا البطل الهامشي يكابد مصيره وحده لا احد يتفهم اختلافه ولا أحد يقاسمه آلامه لأن الألم فردي.
إن الخطاب التخييلي السردي يكون أكثر تبليغا من الخطابات الأخرى و يهدف بالخصوص إلى تنسيب القيم التي ينظر لها المجتمع في إطلاقيتها.
سبق الذكر أن كل قصة في المجموعة تتحدث عن معضلة اجتماعية أو نفسية، ويمكن تقديم تشخيص لمجمل هذه القضايا كالتالي:
في القصة الأولى ترانت سيس، يقدم نموذج الأب المتسلط الداعر المزدوج الشخصية. يقدم نموذجا سلبيا لمفهوم الأبوة أمام طفلة فاقدة أمها.
و في قصة امرأة ..جلباب و علبة حليب، تقدم القاصة نموذج المرأة التي تخلى عنها زوجها و اضطرت الى العودة الى بيت أبيها المتسلط و الذي لم يتفهم وضعها الشيء الذي أدى الى ضياع هذه المرأة التي لا ترغب سوى في بيت وطعام لطفل. هذا الوضع الخانق لامرأة غير متعلمة و ليس لديها استقلال مادي أدى في النهاية الى حتمية البحث عن الرزق من خلال امتهان بيع الجسد لمن هب ودب.
وفي قصة امرأة عاشقة امرأة مهزومة تحكي عن معاناة امرأة زوجها أبوها غصبا عنها و هي لازالت طفلة فتخلى عنها زوجها. بعد هذا الحاد ث الأليم أحبت شخصا آخر تصفه بأنه كان يشبه دبا صغيرا، أصلع بكرش مرتخية تخفي أعضاءه التناسلية و مؤخرة ضخمة ووجه مدور. متسائلة كيف أحبت هذا الصنف من البشر.هو هكذا الحب دائما يأتي بلا موعد، الحب كالموت. ص 30 هذا الشخص الكاريكاتوري هو الآخر تخلى عنها. و تعلق الساردة/ الشخصية عن هذا الوضع: كلهم يهربون عندما تصبح الأمور جادة ص32. أمام هذا التخلي المتكرر تدخل البطلة المنهكة في متاهة الشعوذة تلجأ الى العرافة التي تعدها بان حبيبها سيعود شريطة أن تقدم ذبيحة كبيرة و ليلة كناوية. وفي هذا المستوى من القصة تفضح الساردة الابتزاز الذي تعرضت له من طرف عرافة كانت لها سوابق فالعرافة كانت شيخة أي مغنية شعبية، وعندما جار عليها الزمن أصبحت عرافة ص32. إن عالم هذه القصة مليء بالمفارقات و بالسخرية السوداء و بالضحك حد البكاء.
و في قصة الهذيان تحكي الساردة و هي ملقاة على سرير في مستشفى شخص يقبلها في شفتيها المشققتين و يقول: قبلة أبوية. تذكر أن أباها لم يقبلها قط. تذكر فقط حينما كان ينحني بقامته الفارغة و يضع يده حول خصر أمها و تختفي الصورة كما كانت تختفي الصورة من تلفازهم المتهالك. تذكر حينما كان يقبلها صلاح كانت قبلاته بمذاق السجائر الرخيصة و الخمر الرديئة. تلمس نهديها التي بدت كفلفلة مقلية مرتخية بشكل مقزز ص37. تذكر زوجها الذي كان يعاملها بطريقة قاسية و عقلية ذكورية. أما في القصة اختناق فان الأحداث كلها تدور في الحافلة و من خلال هذه الحافلة التي وصفتها بان الداخل إليها مخنوق والخارج منها مسروق، تصف مجتمعا بأكمله بلصوصه و بؤسائه و شواذه و فقرائه بشاعته.
و في قصة مأدبة الدم، تحكي عن معاناة رجل مصاب بالفشل الكلوي المزمن، ومن خلال هذه المعاناة تصفي حسابها مع الحكومة و تفضح سلوكها الثعلبي اتجاه هؤلاء المرضى، الذين تزيدهم الوعود الكاذبة و فضاءات المستشفى المرعبة معاناة مضاعفة تنتهي بهم الموت القاتم في ردهات المستشفى المزبلة. وفي قصة الخدعة تحكي عن خدعة الزوج ليلة العرس، وذلك عن طريق إعادة البكارة الاصطناعية. أما القصة الأخيرة: يوم من حياة رجل متزوج فإنها قصة تحكي عن مشكلة اللاتواصل بين الزوجين و عن الملل الدائم بينهما.
من خلال تتبعنا للتيمات الرئيسية داخل المجموعة الجريئة، نلاحظ أن القاصة لديها جرأة في اقتحام موضوعات كانت حكرا على الرجال، كما أننا نلمح حضورا بارزا للسير ذاتي داخل ثنايا هذه النصوص، و كأن مليكة مستظرف تسعى الى رسم صورتها الشخصية التي وزعتها على شخصيات المجموعة القصصية، مراوحة في ذلك بين السير ذاتي و التخييل. إضافة إلى المزاوجة بين اليومي والحميمي.و من خلال الانحياز الواضح لليومي و الواقعي ندرك أن الكاتبة تنظر إلى أن كتابة الواقع أعقد من الخيال.
يلاحظ المتتبع للمتن السردي القصصي أن هذا الجنس الأدبي له جاذبية خاصة و لديه قدرة على طرح أسئلة جريئة في المشهد المجتمعي الراهن، و ذلك أن مجموعة من القصاصين و القاصات استطاعت أن تنفذ إلى جوهر الخلل في المجتمع من خلال رصد دقيق و تشخيص عميق لمظاهر عدم التوازن الاجتماعي و ما يترتب عليه من معضلات تصيب الذات في مقتل.
و في سياق البحث في العلاقة بين الكتابة و اليومي، هذه العلاقة التي أضحت اليوم مثار اهتمام النقد، لا سيما و أن الكتابة اليوم أصبحت تحتفي باليومي احتفاء خاصا، وذلك لأسباب عديدة منها البحث عن خصوصية الذات في علاقتها بما يجري حولها، ناهيك عن سقوط الأيدولوجيا الكبرى و الأنساق، مما فسح المجال للكتابة أن تسائل الذات في أشيائها الصغيرة وإفشاء الحميميات، اخترت المجموعة القصصية "ترانت سيس" للقاصة المغربية مليكة مستظرف، كمتن لرصد العلاقة بين الكتابة و اليومي.فما هي طبيعة هذه العلاقة من خلال هذه المجموعة؟ كيف تمثلت القاصة جانبا من المجتمع الذي تعيش فيه؟ كيف عالجته جماليا؟ لماذا اختارت الطبقة المسحوقة اجتماعيا و رصدت من خلالها جنون المجتمع و فوضاه؟ ما هي طبيعة المعالجة التخييلية لهذه المعضلات الاجتماعية؟ لماذا هذه العودة إلى بناء الحكاية بدل تدميرها ؟ و لماذا العودة إلى كتابة الواقع؟
سأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تحليل المتن الحكائي للمجموعة القصصية و تتبع الموضوعات المتواترة في ثناياه.
تتكون المجموعة القصصية ترنت سيس من عشر قصص هي كالتالي: مجرد اختلاف، ترانت سيس، امرأة جلباب، وعلبة حليب، امرأة عاشقة امرأة مهزومة، الهذيان ، الوهم، اختناق، مأدبة الدم ، الخدعة، يوم من حياة رجل متزوج.
اختارت القاصة عنوان المجموعة من عنوان القصة الثانية هادفة من وراء ذلك الى تبئير العمل برمته في تداعيات الجنون والمرض العقلي، وكل الأمراض النفسية التي تنتج عن خلل في الذات و المجتمع. فترانت سيس حوفظ على كتابتها كما تنطق بالدارجة المفرنسة، حيث تحول هذا الرقم 36 إلى مكان و هو مستشفى الأمراض العقلية بالدار البيضاء و من خلال هذا المجاز المرسل الذي يقتضي التجاوز بلاغيا ، شكلت الحقبة الأولى للنص فهي عبرت بالمحل وأرادت الحال فيه، و من خلال الاستعمال الشعبي لهذا المحل تشكل انزياح دلالي جديد حيث أصبح هذا العدد 36 يلصق بكل تصرف أخرق مجنون. ففي القصة التي تحمل هذا العنوان أصبح العدد 36 هو شخصية الأب الذي يعاني من انفصام في الشخصية.
فهو شخص غير متوازن، يقضي كل مساء سبت مع امرأة غريبة في غرفته وابنته الصغيرة ترى و تسمع كل ما يدور بين الأب و المومس بعد انتهائه من عربدته و فعله الداعر يتوجه للصلاة! إنها قمة الانفصام وازدواجية الشخصية.
مكونات العالم القصصي في المجموعة:
يتشكل العلم القصصي عند مليكة مستظرف من خلال رصد الحياة الاجتماعية للطبقة المسحوقة والفقيرة و غير المتعلمة. هذه القصص و الشخصيات منتقاة من قاع المجتمع. وقد تمكنت القاصة من رصد هذه الحياة بتفاصيلها ويخيل للقارئ أن كل قصة من قصص المجموعة قد استوفت تفاصيل الموضوع المعالج فيها، بلغة تنم عن شراسة وعنف في المتخيل الذي يستمد كل مكوناته في الحياة الواقعية، بعيدا عن التأملات و الخيالات الجامحة ، لقد أنزلت مستظرف كل شخصياتها إلى معترك الحياة اليومية و راحت تنسج خيوط قصصها عبر وصف دقيق يتسم بالتركيز على العنصر البشع وعلى كل ما يثير التقزز والغثيان وكأننا نقرأ أناشيد مالدرور للنوتريامون، أو كأننا نقرأ رواية إميل زولا عصارة الخمر. التي رصدت هي الأخرى بشاعة الحياة في باريس القرن 19، حيث القذارة و الأوساخ و الأمراض و التعفنات و سوء التغذية ، و التفكك الأسري ، و المومسات الصغيرات ، وهموم الطبقة العمالية التي تتجمع في الخمارة التي ترمز للموت البطيء. فالشخصية الرئيسية جرفيز كانت تعيش حياة طبيعية مع الفقر إلا أنها ستجد ضالتها في الخمر لتدخل في متاهة احتضارها.
لقد كان إميل زولا يسعى من وراء هذا العمل القوي إلى إبراز أن عامل الوراثة و الحتمية يؤديان الى الخراب و الضياع، إضافة إلى أنه كان يجرب بعض الأفكار العلمية السائدة في عصره من خلال عمل تخييلي.
لقد عالجت مليكة مستظرف مجموعة من القضايا الشائكة في المجتمع المغربي تخص الطبقة المسحوقة و الفقيرة داخل فضاء مدينة الدار البيضاء التي وصفتها إحدى الشخصيات بأنها مدينة عاهرة تفتح فخذيها لكل القادمين. ص24.
كل قصة من قصص المجموعة ترصد عالما مستقلا و موضوعا خاصا رغم تواتر بعض التيمات المركزية الناظمة لعالم هذه القصص كتيمة الأب المتسلط العامي الذي يعيش طيلة حياته بأحكام جاهزة وقيم بالية و عقلية متهالكة تلقاها بعيدا عن المعرفة و التعلم، فقط هي أفكار منهكة ورثة تعشش في ذهنية ذكورية مريضة و متحجرة عاشت على التقاليد المغلوطة و على الوهم و تيمة الأم المفقودة أو العاجزة، هي الأخرى غير المتعلمة تعيش في ظلمات الجهل و الأمية. أن الرجل و المرأة في عالم هذه المجموعة كلاهما ضحية للفقر و غياب التربية السليمة التي تؤهل إلى توريث تربية سليمة للأبناء.
فالأب في قصة ترانت سيس يبعث بطفلته الصغيرة عند البقال بإبراهيم الذي يبيع في حانوته كل شيء : مواد غذائية و خمور رديئة ناهيك على أنه يعالج مرضى الحي بوصفات عجيبة. لتقتني له كل مساء سبت قنينتين من صنف عايشة الطويلة الذي ظلت الطفلة تعتقد أنها امرأة طويلة لتكتشف أخيرا أنها اسم لصنف رديء من الخمور . فماذا سيورث هذا الصنف من الآباء الداعرين العربيدين أطفالهم سوى الرذيلة الهابطة و عدم التوازن النفسي.
لقد عالجت في القصة الأولى : مجرد اختلاف، قضية الخنثى ، وإذا كانت هذه المشكلة قد عالجها مجموعة من الكتاب الذين اتخذوا فكر الاختلاف منهجا في الكتابة والحياة كالخطيبي ، فإنهم قد عالجوها في إطار فلسفي تأملي باعتبار الخنثى حقلا خصبا لتجريب مفاهيم الاختلاف, فان القاصة مليكة مستظرف أنزلت عالم الخنثى من عالم التأمل لتزج به في الواقع اليومي ورصد معاناته الناتجة عن عدم تفهم الآخر لاختلافه الجسدي.
تبدأ القصة بمشهد دال، شارع في آخر الليل ، صامت و فارغ و كئيب، لا وجود إلا لبعض القطط الضالة تموء بطريقة مخيفة كبكاء طفل رضيع، كلبة وكلب يلتحمان وينتشيان، يحس السارد/ الشخصية الخنثى بخدر لذيذ يسري في جسده. يدخل في مونولوغ : كم هما محظوظان يفعلان ذلك الشيء أمام الملأ: ربي يشوف و العبد يشوف. لا يخافان من لا رافل أو من كلام الناس. سرعان ما يتوقف مشهد الانطلاق ليظهر في مسرح الأحداث بوشتى حامي المومسات الذي أفسد على السارد الشخصية لذته في مشاهدة عملية الالتحام الكلبي صارخا بكلام عامي بذيء ينم عن عدوانية مجانية، رماهما بحجر فافترقا و قد صدر عنهما أنين كالبكاء.
إن هذه الجملة المفتتح تهيئ القارئ لما سيأتي من أحداث فالقصة برمتها تحكي معاناة هذا الشخص المختلف جسديا و قد بدأت هذه المعاناة من خلال ابتزاز بوشتى لهذا الخنثى فهو يأخذ نصيبه عن كل عملية مقدما ص10 ومن مضايقة الملتحين له الذين يريدون تنظيف المجتمع، فقد تعرض من طرفهم الى حلق شعر رأسه, وقد ظلت هذه العملية تحز في نفسه لان شعره كان طويلا و أشقر كشعر الخيل ثم من خلال تعنيف أبيه له وقد فاجأ أمه و هي تسرح شعره و تضع احمر الشفاه على خده و تعقص شعره على شكل إسفنجة ، ذلك اليوم ضرب الأم حتى تغوطت وقال لها: هاد الولد غادي تخرجي عليه سيصبح خنثى!. وعلى اثر هذا الحدث فرض عليه أبوه أن يقرأ القرآن ليترجل أي يصير رجلا . وعقوبة كتلك التي يعاقب بها الأطفال من طرف معلمين يجدون لذة في عقوبة الأطفال و هي أن يكتب ألف مرة : أنا رجل . لكن الطفل المختلف جسديا يظل يتراوح بين رغبة الأب أن يكون رجلا و رغبة الجسد أن يكون امرأة. و حتى المهنة التي كان يتمناها هذا الطفل تتضمن في جزء منها إشارة الى الرغبة الجنسية الشاذة. سأله أبوه آش بغيتي تكون في المستقبل؟ أجاب الطفل بيلوط أي ربان طائرة إن جزءا من الكلمة يشير إلى لوط و إلى تداعيات اللواطية. و في المؤسسة التعليمية يعاني من قسوة أستاذ اللغة العربية الذي ضبطه يتحسس مؤخرته لما سمع في درس النحو أن المفعول به يكون منصوبا بالفتحة الظاهرة في آخره، ومن أستاذ التربية الإسلامية الذي يقول: إن الفاعل و المفعول به في نار جهنم. ومن المفارقات أن هذا المدرس يتحرش به ويلمس وجهه برفق ولطف . أصدقاؤه في الفصل يسخرون منه. يدخل حمام النساء فيلفظ لفظ النواة. يدخل حمام الرجال فيطرد أيضا ويقال له: أنت امرأة سيري لحمام النساء. إن المجتمع يتعامل بخشونة و أحيانا بلا مبالاة قاسية بلا سبب يشتمونه في الشارع.
و أخيرا وأمام هذا الضياع وهذا التضييق و رفض المختلف يبقى الحل هو الاقتناع بان الجسد لا يختاره صاحبه هو خليقة الله حتى الطبيب الذي يجسد المؤسسة العلمية تعامل معه بمنطق الربح وبلغة لا يفهمها، حدثه عن الهرمونات و الجينات و الكروموزومات، وقد انتهى معه في الأخير إلى دفعه إلى تقبل جسده.صديقته نعيمة المومس قالت له نفس ما قاله الطبيب لكن بلغتها الخاصة.
و يبقى السؤال المشكلة هو كيف يقنع الآخرين باختلافه؟
طرحت القصة مشكلة الخنثى من منظور واقعي اجتماعي، ورصدت بدقة رد فعل المجتمع بمستوياته و بمؤسساته المتعددة، وكان رد الفعل هو الرفض، وفي أحيان قليلة كانت هناك دعوة للتعايش مع هذا الجسد المختلف وقد كان خطاب القصة يسعى الى تركيز نقطة لدى المتلقي : وهي انه لا حل لهذه المعضلة الا في إطار الاختلاف. وقد نجحت القاصة في خلق نوع من التعاطف اتجاه الشخصية الضحية السارد. و قد عولج الموضوع في إطارين دائري يوحي بان المعضلة مستحكمة، وان هذا البطل الهامشي يكابد مصيره وحده لا احد يتفهم اختلافه ولا أحد يقاسمه آلامه لأن الألم فردي.
إن الخطاب التخييلي السردي يكون أكثر تبليغا من الخطابات الأخرى و يهدف بالخصوص إلى تنسيب القيم التي ينظر لها المجتمع في إطلاقيتها.
سبق الذكر أن كل قصة في المجموعة تتحدث عن معضلة اجتماعية أو نفسية، ويمكن تقديم تشخيص لمجمل هذه القضايا كالتالي:
في القصة الأولى ترانت سيس، يقدم نموذج الأب المتسلط الداعر المزدوج الشخصية. يقدم نموذجا سلبيا لمفهوم الأبوة أمام طفلة فاقدة أمها.
و في قصة امرأة ..جلباب و علبة حليب، تقدم القاصة نموذج المرأة التي تخلى عنها زوجها و اضطرت الى العودة الى بيت أبيها المتسلط و الذي لم يتفهم وضعها الشيء الذي أدى الى ضياع هذه المرأة التي لا ترغب سوى في بيت وطعام لطفل. هذا الوضع الخانق لامرأة غير متعلمة و ليس لديها استقلال مادي أدى في النهاية الى حتمية البحث عن الرزق من خلال امتهان بيع الجسد لمن هب ودب.
وفي قصة امرأة عاشقة امرأة مهزومة تحكي عن معاناة امرأة زوجها أبوها غصبا عنها و هي لازالت طفلة فتخلى عنها زوجها. بعد هذا الحاد ث الأليم أحبت شخصا آخر تصفه بأنه كان يشبه دبا صغيرا، أصلع بكرش مرتخية تخفي أعضاءه التناسلية و مؤخرة ضخمة ووجه مدور. متسائلة كيف أحبت هذا الصنف من البشر.هو هكذا الحب دائما يأتي بلا موعد، الحب كالموت. ص 30 هذا الشخص الكاريكاتوري هو الآخر تخلى عنها. و تعلق الساردة/ الشخصية عن هذا الوضع: كلهم يهربون عندما تصبح الأمور جادة ص32. أمام هذا التخلي المتكرر تدخل البطلة المنهكة في متاهة الشعوذة تلجأ الى العرافة التي تعدها بان حبيبها سيعود شريطة أن تقدم ذبيحة كبيرة و ليلة كناوية. وفي هذا المستوى من القصة تفضح الساردة الابتزاز الذي تعرضت له من طرف عرافة كانت لها سوابق فالعرافة كانت شيخة أي مغنية شعبية، وعندما جار عليها الزمن أصبحت عرافة ص32. إن عالم هذه القصة مليء بالمفارقات و بالسخرية السوداء و بالضحك حد البكاء.
و في قصة الهذيان تحكي الساردة و هي ملقاة على سرير في مستشفى شخص يقبلها في شفتيها المشققتين و يقول: قبلة أبوية. تذكر أن أباها لم يقبلها قط. تذكر فقط حينما كان ينحني بقامته الفارغة و يضع يده حول خصر أمها و تختفي الصورة كما كانت تختفي الصورة من تلفازهم المتهالك. تذكر حينما كان يقبلها صلاح كانت قبلاته بمذاق السجائر الرخيصة و الخمر الرديئة. تلمس نهديها التي بدت كفلفلة مقلية مرتخية بشكل مقزز ص37. تذكر زوجها الذي كان يعاملها بطريقة قاسية و عقلية ذكورية. أما في القصة اختناق فان الأحداث كلها تدور في الحافلة و من خلال هذه الحافلة التي وصفتها بان الداخل إليها مخنوق والخارج منها مسروق، تصف مجتمعا بأكمله بلصوصه و بؤسائه و شواذه و فقرائه بشاعته.
و في قصة مأدبة الدم، تحكي عن معاناة رجل مصاب بالفشل الكلوي المزمن، ومن خلال هذه المعاناة تصفي حسابها مع الحكومة و تفضح سلوكها الثعلبي اتجاه هؤلاء المرضى، الذين تزيدهم الوعود الكاذبة و فضاءات المستشفى المرعبة معاناة مضاعفة تنتهي بهم الموت القاتم في ردهات المستشفى المزبلة. وفي قصة الخدعة تحكي عن خدعة الزوج ليلة العرس، وذلك عن طريق إعادة البكارة الاصطناعية. أما القصة الأخيرة: يوم من حياة رجل متزوج فإنها قصة تحكي عن مشكلة اللاتواصل بين الزوجين و عن الملل الدائم بينهما.
من خلال تتبعنا للتيمات الرئيسية داخل المجموعة الجريئة، نلاحظ أن القاصة لديها جرأة في اقتحام موضوعات كانت حكرا على الرجال، كما أننا نلمح حضورا بارزا للسير ذاتي داخل ثنايا هذه النصوص، و كأن مليكة مستظرف تسعى الى رسم صورتها الشخصية التي وزعتها على شخصيات المجموعة القصصية، مراوحة في ذلك بين السير ذاتي و التخييل. إضافة إلى المزاوجة بين اليومي والحميمي.و من خلال الانحياز الواضح لليومي و الواقعي ندرك أن الكاتبة تنظر إلى أن كتابة الواقع أعقد من الخيال.
* * *
قصيدة النثر العربية: إيقاع المعنى وذكاء العبارة
عرض : محمد تكناوي
تأليف : محمد أيت لعميم.
قليلة هي الدراسات النقدية التي حاولت تطوير آليات وأدوات البحث حول خصوصية قصيدة النثر ضمن تاريخ الشعرية العربية ، ومن بين هذه القلة القيمة الدراسة التي أنجزها ،الباحث والناقد محمد ايت لعميم والموسومة ب " قصيدة النثر العربية : إيقاع المعنى وذكاء العبارة" والتي من المنتظر أن تصدر قريبا.
وفي الحقيقية جذبتني هذه الدراسة التي أمدني بها المؤلف مشكورا وحرصت على قراءتها والاستمتاع بها لسببين : أولهما معرفتي بالمؤلف التي تعود إلى أيام الطفولة ،وزمالة الدراسة، والذي عهدت فيه الجدية والحرص على الانجاز المتميز في كل أعماله النقدية بدءا من باكورة أبحاثه "بورخيس أسطورة الأدب" الذي صدر سنة 2006 إلى كتاب "فائق العبودي حداثة الشكل وعراقة العلامة" الصادر سنة 2013 ببغداد ، ومرورا بطبيعة الحال بأيقونة مؤلفاته "المتنبي : الروح القلقة والترحال الأبدي" الصادر سنة 2010 وغيرها من الكتب والدراسات والمقالات والترجمات. وثانيهما موضوع الكتاب الذي اعتبره إضافة نوعية ورؤية نقدية جديدة لقصيدة النثر ، وغوص في المشترك الإنساني والإبداعي الذي ربط بين رواد هذا النوع من الشعر في المشرق العربي وفي المغرب.
وكتاب "قصيدة النثر العربية بين إيقاع المعنى وذكاء العبارة" هو في الأصل أطروحة دكتوراه حضرها المؤلف منذ نهاية عقد الثمانينات، حيث كانت البداية مع تقديمه عرضا حول قصيدة النثر من منظور نازك الملائكة في مادة موسيقى الشعر بالسلك الثالث، ومنذ تلك اللحظة وهو يتابع عن كثب ما يكتبه الشعراء الذين انحازوا إلى هذا الشكل خاصة بعد انضمامه للغارة الشعرية سنة 1994 والتي شكلت لحضه مهمة في تعامله مع النصوص الشعرية لمحموعة من الشعراء في العالم العربي، كما صادف هذا الاهتمام حرصه على حضور عدة مهرجانات ولقاءات وندوات ومشاركات لحساسيات شعرية مغربية من رواد شعر التفعيلة ومن جيل السبعينات والثمانينات والتسعينات.
الدكتور محمد أيت لعميم
و دبج المؤلف كتابه باستهلال المتغيرات والتطورات التي عرفها الشعر العربي والتي شملت البناء والمضمون والرؤية، حيث كان للتغيير الاجتماعي والسياسي وللقضايا الكبرى اثر حاسم في تغير شكل الشعر ورؤاه ناهيك عن التأثيرات المرتبطة بالثثاقف الذي عرفه العالم عبر الوسائط التي عمقت التواصل مع المنتوج الإبداعي في ربوع القارات الخمس ولم يعد التأثير منحصرا في الهويات الضيقة بل تجاوز الأمر إلى ترسيخ مفهوم الهويات الأدبية المنفتحة.
وإذا كانت النصوص الكبرى في الثقافة العربية ( ألف ليلة وليلة- المتنبي-أو أبوحيان التوحيدي- المعري- الجاحظ ) قد ألهمت وألهبت الخيال الغربي فأفاد منها ولا يزال يستفيد منها في إبداع نصوص خالدة، فلا ضير ، يرى المؤلف أن يسترفد الشعر العربي من منجزات الشعرية الغربية ونصوصها المؤسسة.
فمن المقرر في النظرية النقدية الحديثة أن نص ألف ليلة وليلة قد لعب دورا أساسيا بعد ترجمة القبطان كالان في تشكل الحركة الرومانسية الغربية التي نظرت في اتجاه كسر الحواجز بين الأجناس الأدبية والدعوة إلى امتجازها والإفادة المتبادلة بينها، وقد كان من نتائج هذا التصور ظهور ما أطلق عليه بالفرنسية le poeme en prose وترجمه أدونيس خطأ بقصيدة النثر، والترجمة الدقيقة للمصطلح يؤكد المؤلف هي القصيدة بالنثر، واعتبر هذا الجنس الشعري الجديد لحظة تركيبية لأجناس أدبية مختلفة جعلت الشعر في مهب شعريات منفتحة.
ويرى المؤلف أن المسألة الخلافية بين الشعريات السابقة وقصيدة النثر كانت تتمحور حول مشكلة الوزن والقافية أو الموسيقى الخارجية، ولتجاوز هذه القضية عمد شعراء هذه القصيدة ومنظروها إلى إثبات شعر خارج أطر الوزن والقافية وإلى نفي الشعرية عن نصوص موزونة مقفاة كما هو الحال بالنسبة إلى الشعر التعليمي، فالمشكلة التي أثيرت بهذا الصدد كانت تطابق بين النظم والشعر، والحالة هذه ينبغي الحديث عن الشعر واللاشعر في أي شكل تجلى وأي لبوس اتخذ.
لقد عمد الباحث إلى تتبع ما كثب عن قصيدة النثر بدءا من الكتابات الأولى التي تأثرت مباشرة بخلاصات الكاتبة الكندية سوزان برنار في كتابها المؤسس " قصيدة النثر من بودلير إلى اليوم " و مرورا بالبيانات والمقالات التي كتبها شعراء ينتمون إلى قصيدة النثر كالأربعائيون والجراد وإضاءة 77، وإسراف والغارة الشعرية، ولبعض الدراسات الأكاديمية المنشورة في المجالات أو كتابات مستقلة، وتتبع الكتابات السجالية التي كتبت ضدا عن قصيدة النثر، وبعد فترة من التأمل في هذه الدراسات تبين له أن مناصري القصيدة أفرطوا في التعصب لهذا الشكل واعتبروه تجليا مطلقا للشعرية، أما المناهضون فقد أفرطوا في سلب الشعرية عن هذا الشكل كل ذلك في غياب الاحتكام إلى النصوص الممثلة لهذا الجنس والاكتفاء بإصدار أحكام مطلقة يغلب عليها النقاش النظري.
و فد استقربه البحث على الدفاع عن أطروحة مفادها أن قصيدة النثر العربية ثورة جمالية وإمكان شعري من بين إمكانيات وليست بالتجلي الأخير للحداثة الشعرية. وذلك أن تأطير قصيدة النثر ضمن هذه الأطروحة سيعفي من هدر النقاش حول مسائل جانبية لا تفيد في تطوير أدوات البحث حول خصوصية هذه القصيدة ضمن تاريخ الشعرية العربية. إذا القصيدة لما ضمنت مشروعيتها عبر نصوصها القوية وعبر التطورات التي عرفتها في تاريخها القصير تحتاج اليوم إلى إنصات نقدي عميق يجدد في أدواته ويغير من نظرته إلى هذه القصيدة بعيدا عن إعادة إنتاج التصورات والمفاهيم التي درس به الشعر السابق عن قصيدة النثر.
ولقد توسل المؤلف في تحقيق ما يصبو إليه منهجا استقرائيا تحليليا كاشفا أنه استفاد من بعض مفاهيم النقد ألموضوعاتي كما طبقها الناقد الفرنسي جون بيير ريشارد، مركزا على عنصر أساس اعتمده السميائي ميكائيل ريفاتير الذي يرى " أن ما يميز قصيدة النثر هو أن مولدها يحتوي بذور تناقض في الألفاظ ويتطور النص إما بحل هذا التناقض وإما بتكراره" مضيفا أن دلالة قصيدة النثر " تكمن كليا في التناص أي تتوقف على قدرة القارئ على أن يدرك التفاعل ألعلائقي والصراعي معا"
وفي ثنايا البحث حاول المؤلف أن يعقد صلة بين قصيدة النثر في مهدها الأول وقصيدة النثر العربية وقد لاحظ من خلال هذه المقارنة أن هناك بعض العناصر المتشابهة والمشتركة بينهما ومن العناصر التي بدت له توافقا عجيبا، أن رائد قصيدة النثر الوسيوس برتراند ورائد القصيدة العربية الماغوط يتشابهان من حيث الظهور ومن حيث القصيدة الأولى فالوسيوس قدمه الناقد سانت بون للمجتمع الثقافي الباريسي والماغوط قدمه ادونيس للتجمع الشعري في بيروت، أول قصيدة كتبها الوسيوس بعنوان" ضوء القمر" وأول قصيدة كتبها الماغوط " حزن في ضوء القمر" فهذه الإحالة القمرية إيذان بتحول سيشمل وجه الشعر، إذ للقمر رمزية التحول والتغيير والخصوبة، ويحيل أيضا إلى القطع مع الإرث الرومانسي، ومن القوائم المشتركة أيضا أن هاذين الشاعرين قدما دوواينهم بمقدمات كان لها تأثير كبير في تحديد مفهوم قصيدة النثر.
ويقع الكتاب في 300 صفحة من القطع الوسط يحتوي على مدخل وثلاثة أبواب و ستة فصول عدا المقدمة والملاحق .
المدخل تناول فيه المؤلف الكتابات السابقة في الموضوع، حيث حاول عرض أفكارها ونقد ما ورد فيها، وصنف هذه الكتابات إلى كتابات نظرية وسجالية، والمازجة بين التنظير والتطبيق والكتابات التطبيقية.
ففي الكتابات النظرية تناول كتاب " قصيدة النثر العربية الإطار النظري" لأحمد بزون وكتاب شيخوخة الخليل" لمحمد الصالحي فلاحظ أن كتاب الأول لم يقدم تصورا متماسكا حول قصيدة النثر وغاب فيه الاحتكام إلى النصوص إذ كان رهانه هو محاولة ترسيخ لبنة قصيدة النثر وجاءت فصول الكتاب متقطعة لا صلة تجمع بينها ولم يغادر الكتاب في جملته أراء سوزان برنار، أما كتاب شيخوخة الخليل فقد تمحور حول البحث عن شكل لقصيدة النثر مركزا على عنصر الإيقاع كما نظر لذلك هنري متسونيك لكنه هو الأخر ظل حبيس التصورات النظرية. أما الكتابات السجالية فقد تناول فيها كتاب " وهم الحداثة مقومات قصيدة النثر نموذجا" لمحمد علاء الدين عبد المولى لقد ضل صاحب الكتاب يدافع عن أطروحة ترتكز على أن الشعر يكمن في الرؤيا والإيقاع وليس في التفاصيل والشفوية معتقدا أن قصيدة النثر هي قصيدة التفاصيل علما أن التفاصيل هي وجه من وجوه هده القصيدة، فقد تم التعامل مع القصيدة بنظرة اختزالية.
وقد قام الباحث بتقسيم الباب الأول إلى فصلين : الفصل الأول قصيدة النثر الفرنسية بين الريادة والتأسيس والفصل الثاني قصيدة النثر والمدارس التشكيلية.
وقد كان الهدف من هذا الفصل هو الكشف عن المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بجنس قصيدة النثر، وعلى أهم المحطات التي عرفتها القصيدة في مهدها الأول. وكيف تطورت هذه القصيدة في رحاب المدارس التشكيلية كالتكعيبية والانطباعية ولم تقتصر على الاكتفاء بما أوردته سوزان برنار في كتابها الأساس ، بل حاول الاعتماد على مرجعيات حديثة كما قام بترجمة نصوص عديدة لتعزيز الأطروحة التي يدافع عنها.
أما الباب الثاني فقد خصص لقصيدة النثر العربية إشكاليات المصطلح والسجال النقدي، حيث حاول مناقشة إشكالية المصطلح والتباساته وكيف تم التعامل مع هذا المصطلح الذي اقترحه ادونيس، وانتقادات نازك الملائكة لهذا الجنس الشعري الذي اعتبرته بدعة شعرية محاولة بذلك نقد تجربة الماغوط الذي اجمع النقاد على ريادته لهذه القصيدة إذ لم تطرح قضية النثر العربية إلا بدءا من ظهور الماغوط في بيروت.
أما الباب الثالث والذي اعتبره شخصيا أهم فصول الكتاب وأشملها فقد خصص للتطبيق على متن شعري متنوع انتقاه لتحقيق ما حاول الدفاع عنه، وهو نوع التطور الذي لحق قصيدة النثر منذ تأسيسها إلى اللحظة الراهنة، وبما أن هذا البحث لا يشكل سوى لبنة في بنيان هو بصدد التشييد كان من الطبيعي أن يكتفي بمجموعة من النماذج حاول من خلالها أن يوفق بين بعض التجارب المؤسسة في المشرق وبعض التجارب المغربية التي لم تنل حضها من الدراسة إذ اكتفت الدراسات التي سبقته بدراسة النص المشرقي سواء بالدراسات التي قام بها المشارقة والمغاربة، وقد بدا له أن تمثيلية النص المغربي مطلب ضروري خصوصا وان التجربة المغربية لاقت قبولا واستحسانا لدى مؤسسات النشر المشرقية في بيروت ومصر وسوريا فالانطولوجيا التي أنجزها مؤخرا الشاعر السوري المقيم في اليابان محمد عظيمة كان للتجربة المغربية فيها حصة الأسد، لقد اختار المؤلف الماغوط باعتباره الرائد الحقيقي لهذه القصيدة والتي كتبها بروح عربية ولو أن تمجمع شعر لما قرأ قصائده الأولى اعتقد أنها لبودلير أو رامبو رغم أن الماغوط لم يكن له اتصال بهذه التجارب في لغتها. ومع قدوم الماغوط للتجمع الشعري ستطرح قضية قصيدة النثر للمرة الأولى، أما الشاعر العراقي سركون بولص فهو الذي فتح هذه القصيدة على شعريات عالمية واسهم في ترجمة نصوص قوية أسندت تجربة قصيدة النثر، فقد أعاد ترجمة كتاب النبي لجبران عن الانجليزية وترجم القصيدة الشهيرة " عواء" لألان غيسنبورغ. أما سيف الرحبي فقد اختاره لأنه حقق له مطلب الاهتمام بالمكان إذ اتهمت قصيدة النثر من قبل نقاد مثل كمال ابوديب أنها تكتب خارج المكان ولا وجود لها إلا في ذهن صاحبها واعتمد سيف الرحى لبدحض هذا الأمر إذ مثل المكان – الصحراء تحديدا- حضورا كبيرا في تجربته الشعرية ولم يعد ديكورا أو عنصرا من عناصر النص الأدبي وإنما الأرضية المركزية التي تتحرك في شتاتها الكائنات والمخلوقات بحيواتها المختلفة، أما نصوص حسن نجمي خصوصا "حياة صغيرة" و "المستحمات" و"على انفراد" فقد شكلا انعطافة في تجربته وتداخلت فيها عناصر عديدة شكلت عوالمه إذ امتزج لديه التشكيلي بقصيدة التفاصيل بكتابة البورتريه. أما طه عدنان فقد اختار ديوانه " ولي فيها عناكب أخرى" والذي تحول إلى " اكره الحب" لأنه زج بقصيدة النثر في تشريح التقنية و راح يؤصل هذه القصيدة في استثمار الموروث الشعري القديم خصوصا الأدب الشطاري.أما ياسين عدنان فقد اختار مجموعته رصيف القيامة للروح التنبؤية التي حملتها قصيدة رصيف القيامة حيث راح يتأمل في القيامة الأرضية ويحاول الإمساك بما يجري من أحداث زلزلت العالم بدءا من الحادي عشر من سبتمبر وتبعات هذه الزلزالة.
ويختتم المؤلف كتابه القيم بالتأكيد على أن النصوص التي اشتغل عليها استخلص منها مجموعة من الخصائص مهيمنة في قصيدة النثر: هيمنة الصورة الشعرية وتكثيف الدلالة، الاعتماد على لغة المفارقة اعتماد الضربة القاضية في نهاية القصيدة لخلق نوع من الانطباع الحاد غير المتوقع، تغريب الحياة اليومية والأشياء العادية، اكتشاف العادي والاهتمام بالتفاصيل اليومية، أنسنة الأشياء الجامدة بغية خلق إحساس بالألفة المفتقدة في الحياة اليومية، الحياد اللغوي والعاطفي، تقنية التكرار بغية إحداث إيقاع منضبط إضفاء الشعرية على المبتذل والهامشي اعتماد السخرية، توسيع المرجعية وتذويب التناص التركيز على المشهدية واستثمار الصور البصرية استخدام تقنيات الوصف والسرد ووجهة النظر بديل عن الرؤيا ورؤية العالم كتابة التجارب الحميمية والرغبات الحسية أو شعرية التعري.
بقي ان أشير في الختام ، أن هذا المقال لا يغني بأي حال من الأحوال عن قراءة هذا الكتاب، فغايتي من كتابة هذه السطور أن تكون دافعة للقارئ إلى الظفر به بمجرد صدوره، فالكتاب درة بالفعل.
فمن المقرر في النظرية النقدية الحديثة أن نص ألف ليلة وليلة قد لعب دورا أساسيا بعد ترجمة القبطان كالان في تشكل الحركة الرومانسية الغربية التي نظرت في اتجاه كسر الحواجز بين الأجناس الأدبية والدعوة إلى امتجازها والإفادة المتبادلة بينها، وقد كان من نتائج هذا التصور ظهور ما أطلق عليه بالفرنسية le poeme en prose وترجمه أدونيس خطأ بقصيدة النثر، والترجمة الدقيقة للمصطلح يؤكد المؤلف هي القصيدة بالنثر، واعتبر هذا الجنس الشعري الجديد لحظة تركيبية لأجناس أدبية مختلفة جعلت الشعر في مهب شعريات منفتحة.
ويرى المؤلف أن المسألة الخلافية بين الشعريات السابقة وقصيدة النثر كانت تتمحور حول مشكلة الوزن والقافية أو الموسيقى الخارجية، ولتجاوز هذه القضية عمد شعراء هذه القصيدة ومنظروها إلى إثبات شعر خارج أطر الوزن والقافية وإلى نفي الشعرية عن نصوص موزونة مقفاة كما هو الحال بالنسبة إلى الشعر التعليمي، فالمشكلة التي أثيرت بهذا الصدد كانت تطابق بين النظم والشعر، والحالة هذه ينبغي الحديث عن الشعر واللاشعر في أي شكل تجلى وأي لبوس اتخذ.
لقد عمد الباحث إلى تتبع ما كثب عن قصيدة النثر بدءا من الكتابات الأولى التي تأثرت مباشرة بخلاصات الكاتبة الكندية سوزان برنار في كتابها المؤسس " قصيدة النثر من بودلير إلى اليوم " و مرورا بالبيانات والمقالات التي كتبها شعراء ينتمون إلى قصيدة النثر كالأربعائيون والجراد وإضاءة 77، وإسراف والغارة الشعرية، ولبعض الدراسات الأكاديمية المنشورة في المجالات أو كتابات مستقلة، وتتبع الكتابات السجالية التي كتبت ضدا عن قصيدة النثر، وبعد فترة من التأمل في هذه الدراسات تبين له أن مناصري القصيدة أفرطوا في التعصب لهذا الشكل واعتبروه تجليا مطلقا للشعرية، أما المناهضون فقد أفرطوا في سلب الشعرية عن هذا الشكل كل ذلك في غياب الاحتكام إلى النصوص الممثلة لهذا الجنس والاكتفاء بإصدار أحكام مطلقة يغلب عليها النقاش النظري.
و فد استقربه البحث على الدفاع عن أطروحة مفادها أن قصيدة النثر العربية ثورة جمالية وإمكان شعري من بين إمكانيات وليست بالتجلي الأخير للحداثة الشعرية. وذلك أن تأطير قصيدة النثر ضمن هذه الأطروحة سيعفي من هدر النقاش حول مسائل جانبية لا تفيد في تطوير أدوات البحث حول خصوصية هذه القصيدة ضمن تاريخ الشعرية العربية. إذا القصيدة لما ضمنت مشروعيتها عبر نصوصها القوية وعبر التطورات التي عرفتها في تاريخها القصير تحتاج اليوم إلى إنصات نقدي عميق يجدد في أدواته ويغير من نظرته إلى هذه القصيدة بعيدا عن إعادة إنتاج التصورات والمفاهيم التي درس به الشعر السابق عن قصيدة النثر.
ولقد توسل المؤلف في تحقيق ما يصبو إليه منهجا استقرائيا تحليليا كاشفا أنه استفاد من بعض مفاهيم النقد ألموضوعاتي كما طبقها الناقد الفرنسي جون بيير ريشارد، مركزا على عنصر أساس اعتمده السميائي ميكائيل ريفاتير الذي يرى " أن ما يميز قصيدة النثر هو أن مولدها يحتوي بذور تناقض في الألفاظ ويتطور النص إما بحل هذا التناقض وإما بتكراره" مضيفا أن دلالة قصيدة النثر " تكمن كليا في التناص أي تتوقف على قدرة القارئ على أن يدرك التفاعل ألعلائقي والصراعي معا"
وفي ثنايا البحث حاول المؤلف أن يعقد صلة بين قصيدة النثر في مهدها الأول وقصيدة النثر العربية وقد لاحظ من خلال هذه المقارنة أن هناك بعض العناصر المتشابهة والمشتركة بينهما ومن العناصر التي بدت له توافقا عجيبا، أن رائد قصيدة النثر الوسيوس برتراند ورائد القصيدة العربية الماغوط يتشابهان من حيث الظهور ومن حيث القصيدة الأولى فالوسيوس قدمه الناقد سانت بون للمجتمع الثقافي الباريسي والماغوط قدمه ادونيس للتجمع الشعري في بيروت، أول قصيدة كتبها الوسيوس بعنوان" ضوء القمر" وأول قصيدة كتبها الماغوط " حزن في ضوء القمر" فهذه الإحالة القمرية إيذان بتحول سيشمل وجه الشعر، إذ للقمر رمزية التحول والتغيير والخصوبة، ويحيل أيضا إلى القطع مع الإرث الرومانسي، ومن القوائم المشتركة أيضا أن هاذين الشاعرين قدما دوواينهم بمقدمات كان لها تأثير كبير في تحديد مفهوم قصيدة النثر.
ويقع الكتاب في 300 صفحة من القطع الوسط يحتوي على مدخل وثلاثة أبواب و ستة فصول عدا المقدمة والملاحق .
المدخل تناول فيه المؤلف الكتابات السابقة في الموضوع، حيث حاول عرض أفكارها ونقد ما ورد فيها، وصنف هذه الكتابات إلى كتابات نظرية وسجالية، والمازجة بين التنظير والتطبيق والكتابات التطبيقية.
ففي الكتابات النظرية تناول كتاب " قصيدة النثر العربية الإطار النظري" لأحمد بزون وكتاب شيخوخة الخليل" لمحمد الصالحي فلاحظ أن كتاب الأول لم يقدم تصورا متماسكا حول قصيدة النثر وغاب فيه الاحتكام إلى النصوص إذ كان رهانه هو محاولة ترسيخ لبنة قصيدة النثر وجاءت فصول الكتاب متقطعة لا صلة تجمع بينها ولم يغادر الكتاب في جملته أراء سوزان برنار، أما كتاب شيخوخة الخليل فقد تمحور حول البحث عن شكل لقصيدة النثر مركزا على عنصر الإيقاع كما نظر لذلك هنري متسونيك لكنه هو الأخر ظل حبيس التصورات النظرية. أما الكتابات السجالية فقد تناول فيها كتاب " وهم الحداثة مقومات قصيدة النثر نموذجا" لمحمد علاء الدين عبد المولى لقد ضل صاحب الكتاب يدافع عن أطروحة ترتكز على أن الشعر يكمن في الرؤيا والإيقاع وليس في التفاصيل والشفوية معتقدا أن قصيدة النثر هي قصيدة التفاصيل علما أن التفاصيل هي وجه من وجوه هده القصيدة، فقد تم التعامل مع القصيدة بنظرة اختزالية.
وقد قام الباحث بتقسيم الباب الأول إلى فصلين : الفصل الأول قصيدة النثر الفرنسية بين الريادة والتأسيس والفصل الثاني قصيدة النثر والمدارس التشكيلية.
وقد كان الهدف من هذا الفصل هو الكشف عن المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بجنس قصيدة النثر، وعلى أهم المحطات التي عرفتها القصيدة في مهدها الأول. وكيف تطورت هذه القصيدة في رحاب المدارس التشكيلية كالتكعيبية والانطباعية ولم تقتصر على الاكتفاء بما أوردته سوزان برنار في كتابها الأساس ، بل حاول الاعتماد على مرجعيات حديثة كما قام بترجمة نصوص عديدة لتعزيز الأطروحة التي يدافع عنها.
أما الباب الثاني فقد خصص لقصيدة النثر العربية إشكاليات المصطلح والسجال النقدي، حيث حاول مناقشة إشكالية المصطلح والتباساته وكيف تم التعامل مع هذا المصطلح الذي اقترحه ادونيس، وانتقادات نازك الملائكة لهذا الجنس الشعري الذي اعتبرته بدعة شعرية محاولة بذلك نقد تجربة الماغوط الذي اجمع النقاد على ريادته لهذه القصيدة إذ لم تطرح قضية النثر العربية إلا بدءا من ظهور الماغوط في بيروت.
أما الباب الثالث والذي اعتبره شخصيا أهم فصول الكتاب وأشملها فقد خصص للتطبيق على متن شعري متنوع انتقاه لتحقيق ما حاول الدفاع عنه، وهو نوع التطور الذي لحق قصيدة النثر منذ تأسيسها إلى اللحظة الراهنة، وبما أن هذا البحث لا يشكل سوى لبنة في بنيان هو بصدد التشييد كان من الطبيعي أن يكتفي بمجموعة من النماذج حاول من خلالها أن يوفق بين بعض التجارب المؤسسة في المشرق وبعض التجارب المغربية التي لم تنل حضها من الدراسة إذ اكتفت الدراسات التي سبقته بدراسة النص المشرقي سواء بالدراسات التي قام بها المشارقة والمغاربة، وقد بدا له أن تمثيلية النص المغربي مطلب ضروري خصوصا وان التجربة المغربية لاقت قبولا واستحسانا لدى مؤسسات النشر المشرقية في بيروت ومصر وسوريا فالانطولوجيا التي أنجزها مؤخرا الشاعر السوري المقيم في اليابان محمد عظيمة كان للتجربة المغربية فيها حصة الأسد، لقد اختار المؤلف الماغوط باعتباره الرائد الحقيقي لهذه القصيدة والتي كتبها بروح عربية ولو أن تمجمع شعر لما قرأ قصائده الأولى اعتقد أنها لبودلير أو رامبو رغم أن الماغوط لم يكن له اتصال بهذه التجارب في لغتها. ومع قدوم الماغوط للتجمع الشعري ستطرح قضية قصيدة النثر للمرة الأولى، أما الشاعر العراقي سركون بولص فهو الذي فتح هذه القصيدة على شعريات عالمية واسهم في ترجمة نصوص قوية أسندت تجربة قصيدة النثر، فقد أعاد ترجمة كتاب النبي لجبران عن الانجليزية وترجم القصيدة الشهيرة " عواء" لألان غيسنبورغ. أما سيف الرحبي فقد اختاره لأنه حقق له مطلب الاهتمام بالمكان إذ اتهمت قصيدة النثر من قبل نقاد مثل كمال ابوديب أنها تكتب خارج المكان ولا وجود لها إلا في ذهن صاحبها واعتمد سيف الرحى لبدحض هذا الأمر إذ مثل المكان – الصحراء تحديدا- حضورا كبيرا في تجربته الشعرية ولم يعد ديكورا أو عنصرا من عناصر النص الأدبي وإنما الأرضية المركزية التي تتحرك في شتاتها الكائنات والمخلوقات بحيواتها المختلفة، أما نصوص حسن نجمي خصوصا "حياة صغيرة" و "المستحمات" و"على انفراد" فقد شكلا انعطافة في تجربته وتداخلت فيها عناصر عديدة شكلت عوالمه إذ امتزج لديه التشكيلي بقصيدة التفاصيل بكتابة البورتريه. أما طه عدنان فقد اختار ديوانه " ولي فيها عناكب أخرى" والذي تحول إلى " اكره الحب" لأنه زج بقصيدة النثر في تشريح التقنية و راح يؤصل هذه القصيدة في استثمار الموروث الشعري القديم خصوصا الأدب الشطاري.أما ياسين عدنان فقد اختار مجموعته رصيف القيامة للروح التنبؤية التي حملتها قصيدة رصيف القيامة حيث راح يتأمل في القيامة الأرضية ويحاول الإمساك بما يجري من أحداث زلزلت العالم بدءا من الحادي عشر من سبتمبر وتبعات هذه الزلزالة.
ويختتم المؤلف كتابه القيم بالتأكيد على أن النصوص التي اشتغل عليها استخلص منها مجموعة من الخصائص مهيمنة في قصيدة النثر: هيمنة الصورة الشعرية وتكثيف الدلالة، الاعتماد على لغة المفارقة اعتماد الضربة القاضية في نهاية القصيدة لخلق نوع من الانطباع الحاد غير المتوقع، تغريب الحياة اليومية والأشياء العادية، اكتشاف العادي والاهتمام بالتفاصيل اليومية، أنسنة الأشياء الجامدة بغية خلق إحساس بالألفة المفتقدة في الحياة اليومية، الحياد اللغوي والعاطفي، تقنية التكرار بغية إحداث إيقاع منضبط إضفاء الشعرية على المبتذل والهامشي اعتماد السخرية، توسيع المرجعية وتذويب التناص التركيز على المشهدية واستثمار الصور البصرية استخدام تقنيات الوصف والسرد ووجهة النظر بديل عن الرؤيا ورؤية العالم كتابة التجارب الحميمية والرغبات الحسية أو شعرية التعري.
بقي ان أشير في الختام ، أن هذا المقال لا يغني بأي حال من الأحوال عن قراءة هذا الكتاب، فغايتي من كتابة هذه السطور أن تكون دافعة للقارئ إلى الظفر به بمجرد صدوره، فالكتاب درة بالفعل.
أيها
النيلوفر بلا وزن ولا قافية
مختارات من الشعر التركي الحديث
تقديم
وترجمة : محمد آيت لعميم
(المغرب)
إن
التصنيف الذي وضعه الجاحظ في القرن الثالث الهجري للضائع لدى الأمم, وخص فيه العرب
وحدهم بصناعة الشعر أصبح اليوم مجالا للشك خاصة وأن الترجمة في اللحظة
الراهنة كشفت لنا أن الأمم حتى المهمشة, منها تشعر وأحيانا تشعر بعمق.
لقد عملت الترجمة اليوم على كشف شعوب وقارات شعرية, وكشفت لنا أشكالا من التعبير الشعري لم تألفها الذائقة الشعرية العربية القديمة, ولقد عمل هذا الشعر المنقول عن لغات العالم دورا أساسيا في فتح مسالك جديدة أمام الشعراء العرب المحدثين والمعاصرين والراهنين.
هناك عوامل عديدة وراء هذا الانفتاح على التجارب التي ظلت مهمشة وغير معروفة لدينا; أبرزها نضوب منابع الشعر في المراكز الثقافية في الغرب الراهن. وظهور شعوب كانت مطمورة ومغيبة لأسباب سياسية. فبعد التحولات التي عرفها العالم في العقد الأخير طغت على الساحة مجموعة من الاثنيات. وقد كان من الضروري التشوق لآداب هذه الشعوب ومعرفة طرق التعبير لديها. هذا ما يفسر لنا اهتمام مجموعة من المجلات والدوريات والإصدارات بترجمة آداب هذه الأمم ونقله إما من لغته أو من لغات أخرى ترجم إليها, وكما لا يخفى فقد انفتح الغرب على هذه الثقافات منذ القرن 18 19 إما لأسباب سياسية- استعمارية أو ثقافية. وقد ترجم الى الانجليزية والفرنسية آداب كثيرة لشعوب الشرق.
أيضا ظهرت رغبة لدى الشعراء في التفاعل والتقارب والتعارف, والبحث عن سبل لعولمة الشعر من خلال بعض اللقاءات والمهرجانات في فرنسا وسويسرا والغرب ناهيك عن ان الثورة المعلوماتية لعبت دورا كبيرا في كسر الحواجز بين الأمم في طرق تداول الشعر, وان ظلت بعض اللغات عائقا فان المسألة محتاجة فقط لبعض الوقت لتجد حلولا مجدية.
في هذا السياق بدا لي أن أساهم ولو بقسط ضئيل في نقل مجموعة من التجارب الشعرية لدى الشعراء الأتراك المحدثين.
ومن عجائب الاتفاق ان الشاعر العربي الكبير ((امرؤ القيس)) قد قضى نحبه في تركيا ودفن بأنقرة لما كان راجعا من عند ملك الروم حين استجار به ليثأر لأبيه. ويروى انه مات بحلة مسمومة قرحت جلده أهداه إياها ملك الروم. وأيضا فالشاعر الصوفي الكبير جلال الدين الرومي المشهور بمثنوياته هو الآخر قضى نحبه بهذه الأرض.
إن أرضا تضم في ترابها شاعرين من هذا العيار جدير بها ان تنبت شعراء كبارا, وقد فعلت, فهي اليوم تعرف بشاعرها الثائر ناظم حكمت الذي الهم مجموعة من الشعراء الذين اختاروا درب الالتزام والنضال والدفاع عن الحق.
ويبقى ناظم حكمت الشجرة الوارفة الظلال التي تخفي الغابة, فقد نبت الى جانبه مجموعة من الأصوات الشعرية التي انفتحت هي الأخرى على التراث الشعري برموزه وأساطيره وعلى تجارب الشعراء في الشرق والغرب.
وسيجد القارئ في تجارب الشعراء الذين اخترناهم من بين مجموعة شعراء نكهة شعرية مختلفة وتجريبا شعريا يتسم بالجرأة والمصداقية.
إن القواسم المشتركة بين هذه النصوص الشعرية هي نزعتها النثرية وتقشفها الجمالي وابتعادها عن الدسامة التي تضر بالجوهر الشعري وتصيب النص بالترهل, أيضا هناك نوع من التعفف والتنحي عن الإغراق في الغنائية.
إنها نصوص عارية إلا من عمقها وبساطتها التي تقبض على تحولات الكائن وعلى لا نهائية أحاسيسه; إنها نصوص تقصد مباشرة ما تريد البوح به, وتقربنا من شعراء اختاروا البساطة والعمق في تناول الوجود, هذا الوجود الذي كلما أردنا القبض عليه بلغة القواميس المهجورة أو الهذيان اللغوي أو البلاغة المستهلكة إلا وتوارى بالحجاب.
لقد عملت الترجمة اليوم على كشف شعوب وقارات شعرية, وكشفت لنا أشكالا من التعبير الشعري لم تألفها الذائقة الشعرية العربية القديمة, ولقد عمل هذا الشعر المنقول عن لغات العالم دورا أساسيا في فتح مسالك جديدة أمام الشعراء العرب المحدثين والمعاصرين والراهنين.
هناك عوامل عديدة وراء هذا الانفتاح على التجارب التي ظلت مهمشة وغير معروفة لدينا; أبرزها نضوب منابع الشعر في المراكز الثقافية في الغرب الراهن. وظهور شعوب كانت مطمورة ومغيبة لأسباب سياسية. فبعد التحولات التي عرفها العالم في العقد الأخير طغت على الساحة مجموعة من الاثنيات. وقد كان من الضروري التشوق لآداب هذه الشعوب ومعرفة طرق التعبير لديها. هذا ما يفسر لنا اهتمام مجموعة من المجلات والدوريات والإصدارات بترجمة آداب هذه الأمم ونقله إما من لغته أو من لغات أخرى ترجم إليها, وكما لا يخفى فقد انفتح الغرب على هذه الثقافات منذ القرن 18 19 إما لأسباب سياسية- استعمارية أو ثقافية. وقد ترجم الى الانجليزية والفرنسية آداب كثيرة لشعوب الشرق.
أيضا ظهرت رغبة لدى الشعراء في التفاعل والتقارب والتعارف, والبحث عن سبل لعولمة الشعر من خلال بعض اللقاءات والمهرجانات في فرنسا وسويسرا والغرب ناهيك عن ان الثورة المعلوماتية لعبت دورا كبيرا في كسر الحواجز بين الأمم في طرق تداول الشعر, وان ظلت بعض اللغات عائقا فان المسألة محتاجة فقط لبعض الوقت لتجد حلولا مجدية.
في هذا السياق بدا لي أن أساهم ولو بقسط ضئيل في نقل مجموعة من التجارب الشعرية لدى الشعراء الأتراك المحدثين.
ومن عجائب الاتفاق ان الشاعر العربي الكبير ((امرؤ القيس)) قد قضى نحبه في تركيا ودفن بأنقرة لما كان راجعا من عند ملك الروم حين استجار به ليثأر لأبيه. ويروى انه مات بحلة مسمومة قرحت جلده أهداه إياها ملك الروم. وأيضا فالشاعر الصوفي الكبير جلال الدين الرومي المشهور بمثنوياته هو الآخر قضى نحبه بهذه الأرض.
إن أرضا تضم في ترابها شاعرين من هذا العيار جدير بها ان تنبت شعراء كبارا, وقد فعلت, فهي اليوم تعرف بشاعرها الثائر ناظم حكمت الذي الهم مجموعة من الشعراء الذين اختاروا درب الالتزام والنضال والدفاع عن الحق.
ويبقى ناظم حكمت الشجرة الوارفة الظلال التي تخفي الغابة, فقد نبت الى جانبه مجموعة من الأصوات الشعرية التي انفتحت هي الأخرى على التراث الشعري برموزه وأساطيره وعلى تجارب الشعراء في الشرق والغرب.
وسيجد القارئ في تجارب الشعراء الذين اخترناهم من بين مجموعة شعراء نكهة شعرية مختلفة وتجريبا شعريا يتسم بالجرأة والمصداقية.
إن القواسم المشتركة بين هذه النصوص الشعرية هي نزعتها النثرية وتقشفها الجمالي وابتعادها عن الدسامة التي تضر بالجوهر الشعري وتصيب النص بالترهل, أيضا هناك نوع من التعفف والتنحي عن الإغراق في الغنائية.
إنها نصوص عارية إلا من عمقها وبساطتها التي تقبض على تحولات الكائن وعلى لا نهائية أحاسيسه; إنها نصوص تقصد مباشرة ما تريد البوح به, وتقربنا من شعراء اختاروا البساطة والعمق في تناول الوجود, هذا الوجود الذي كلما أردنا القبض عليه بلغة القواميس المهجورة أو الهذيان اللغوي أو البلاغة المستهلكة إلا وتوارى بالحجاب.
المرأة السفينة وهي لحنا مينه: اصداء لـ زوربا و الشيخ والبحر ..
وبعض أبطال
تايتنك....
غالي
المسرحي سالم كويندي..والشاعر عبد الحق ميفرانيف...استطاعت الرواية ان تقتحم عوالم
عديدة، ومجاهل الحياة والنفس البشرية، وبذلك قدمت لنا عبر تاريخها الحافل بالروائع
معرفة عميقة بالذات والوجود، في تنوعاته وتشعباته.
ويعتبر الفضاء البحري من الفضاءات الخصبة التي تم استثمارها في روايات خالدة، خلود البحر في اغرائه ومجهوليته. فهذه الكرة المائية ـ التي يدعوها الجغرافيون خطأ الكرة الارضية ـ لا تشكل فيها اليابسة سوي نزر يسير، هي شبيهة بكشبان ملقي في صحراء. او لنقل اننا نمتلك اليابسة في حين ان البحر يمتلكنا.
وبذلك فالبحر بنشيده الذي لا يمل تكراره، وبكائناته الحقيقية والاسطورية يجتذب الانسان نحو المغامرة والمقامرة كما فعل سندباد وأوليس. ولذلك نجد البحر قد تشكل في مخيال الانسان برموز عديدة، ودلالات كونية.
اذا رجعنا الي معجم الرموز نجد ان مؤلفيه استطاعا ان يستقصيا اهم رمزيات البحر في الثقافات، والصور النمطية حوله. فقد ذهبا الي ان البحر رمز لدينامية الحياة، فالكل خرج من البحر واليه يعود: انه مكان للولادات والتحولات والانبعاثات. ويرمز الي الحالة الانتقالية بين الممكنات التي مازالت غير متشكلة والحقائق المشكلة، انه وضعية متحركة، وضعية اللايقين والشك، من هنا يكون البحر في الان نفسه صورة للحياة وصورة للموت، فالقدماء كانوا يهبون للبحر اضحيات من الخيل والثيران، وهذه نفسها رموز للخصوبة، لكن من قاع البحر تبزغ وحوش هي رمز لصورة العقل الباطني . (معجم الرموز، باب البحر، ص 420).
ففي الميثولوجيا الايرلندية، مثلا جاءت الالهة عبر البحر، وعبر البحر سنذهب الي العالم الآخر. وقد جاء في التوراة ان مشاهد القيامة يتغني بالعالم الجديد حيث لا وجود للبحر البتة. وفي القرآن الكريم، هناك حديث عن البحر المسجور، أي المحترق، كعلامة علي الدخول الي العالم الآخر. ويرمز البحر عند المتصوفة للعالم وللقلب الانساني، باعتباره مقرا للعواطف. فالبحر رمز للحياة العليا، للجوهر الالهي، يقول الصوفي المغربي الشهير عبد السلام بن مشيش باقيانوس الوحدة الالهية ، ويقول عبد الكريم الجيلي بأقيانوس المجد الالهي ، وحسب الشهبتري الاقيانوس هو القلب والمعرفة، والساحل هو الغنوص، والقوقعة هي اللغة، والجوهرة بداخلها هي علم القلب، اي المعني السري للغة.
لقد ارتبطت دلالة البحر بالخصوبة والعطاء، فأشتقت للبحر كلمة في العربية تشير للامومة وهي كلمة اليم ، وبالفرنسية هناك جناس بارز بين Mere (ام) وMer (بحر).
ان هذه الرمزيات المتعددة والمتنوعة، كانت لها جاذبية خاصة في الابداع بصفة عامة وفي الكتابات الروائية بصفة خاصة. فنماذج عديدة من الروايات العالمية استثمرت هذه الرمزيات مثل روايات ميلفيل وكونراد، وهيمنغواي، ونيكوس كازانتزاكي وغيرهم، ولعل رواية الشيخ والبحر رائعة هيمنغواي، هي الرواية التي استأثرت باهتمام النقاد، وهي تحكي عن خروج الملاح سنتياغو الي البحر منفردا، بعد اربعة وثمانين يوما استعصي عليه الصيد فيها، وهو يقرر ـ كبطل في مأساة اغريقية قديمة ـ ان يتوغل في البحر، متعديا حدود الآمن والمألوف، وهو شيخ يحمل علي وجهه وجسده خاتم البحر الذي عركه، التجاعيد العميقة والقروح والندوب كان كل شيء فيه عجوزا خلا عينيه، كان لونهما مثل لون البحر، وكانتا مبتهجتين باسلتين. ولسانتياغو مريد صغير، يحب معلمه الشيخ، ويرغب في مصاحبته، لكن اهله يمنعونه وينقلونه علي ظهر مركب اوفر حظا.
لقد افاض نقاد هيمنغواي في الحديث عن الرمز والمفارقة في الشيخ والبحر ، وعن مبناها الذي يشبه القصص الرمزية في العهد الجديد. فالهيكل العظمي الممد في نهاية الكتاب والرحلة، الذي يوحي للوهلة الاولي، بأن حصاد التجربة لا يختلف كثيرا عن حكمة سفر الجامعة في العهد القديم علي لسان النبي سليمان عليه السلام: الكل باطل وقبض ريح . فالرحلة انتهت باللاشيء، ولكن سلوك سنتياغو المتمثل في عناده واصراره علي العودة الي البحر مرة اخري، هي التي ترجح كفة الوجود علي العدم (صيادو الذاكرة، رضوي عاشور، ص 29).
ان رواية هيمنغواي لبساطة سردها وعمقها الفكري والفلسفي كانت محط اهتمام النقاد والمترجمين والمبدعين، فتمت محاكاتها ومعارضتها في نصوص بارزة، ومن اهم النصوص التي عارضت هذه الرواية هي رواية الكاتب الروسي جنكيز ايتماتوف الكلب الابيض الراكض علي حافة البحر ، وقصة الكاتب الايطالي الشهير دينو بوزاتي بعنوان ale ka . وفي الاتجاه المعاكس تذهب الروائية المصرية رضوي عاشور الي ان رواية الشيخ والبحر هي ـ من احدي الزوايا ـ معارضة لنص الشاعر الانكليزي كولريدج الملاح القديم ، وهي من ابرز القصائد الانكليزية التي ترتكز الي مفهوم وحدة الوجود (الانسان والبحر، ص 25).
واذا ما التفتنا الي المشهد الروائي العربي، فاننا نجد ان الروائي السوري حنا مينة هو روائي البحر بلا منازع، ففي معرض حديثه عن عالمه الروائي يقول: ان ملامح هذا العالم تتجلي فيما كتبته عن البحر، يقول النقاد انني اديب البحر، وانا سعيد بهذه الصفة، لكن عالم البحر من السعة والشمول بحيث لا تغطي مساهمتي الروائية الا حيزا ضيقا من مساحته الشاسعة، وعلي هذا فالموضوع يحتاج الي مناقشة (هواجس في التجربة الروائية، حنا مينة، ص 5).
ويعتبر حنا مينة نفسه سباقا لموضوعات لم تثرها الرواية العربية قبله، يقول: الاشياء التي تناولتها في رواياتي كانت مناطق جديدة في الرواية العربية، منها البحر، والغابة، والمعركة الحربية، ففي البحر كتبت الشراع والعاصفة ، وجملة اشياء، وفي الغابة كتبت الياطر وغيرها، وفي المعركة الحربية كتبت المرصد ، وازعم انه في الادب العربي لم تطرق هذه الموضوعات بالشكل الذي طرقتها فيه، لانها عندي اتخذت رحابة عوالم كاملة، ويكفي ان يقرأها المرء كي يقول: اعرف البحر والغابة والحرب، (المرجع نفسه ص6). ويؤكد حنا مينة علي انه حين اطلع علي روايات هيمنغواي عشقها ولا يزال، لكن فكرة تقليد اسلوب هيمنغواي لم تخطر له ببال، رغم ان عالم البحر هو القاسم المشترك بينهما، يصرح قائلا: لقد انجزت روايتي الشراع والعاصفة عام 1958، وكنت قد بدأتها عام 1956 اثر العدوان الثلاثي علي مصر، والضجة التي ثارت حول بطولة البحارة العرب، وبعد سنوات اطلعت علي رواية الشيخ والبحر ولم استشعر ايما اسف لانني كتبت الشراع قبل ان اطلع عليها، فالشراع كانت مُرضية بالنسبة الي، وان كنت قد تشردت عام 1959 ولم استطع نشر روايتي الا عام 1963 لاول مرة (نفس المرجع ص 8).
في هذه الدراسة سنحاول ملامسة عالم البحر واشتغاله في الرواية الاخيرة لحنا مينة المعنونة البحر والسفينة وهي! . الصادرة عن دار الآداب، والعنوان لا يحتاج الي عناء تفكير، فهو عنوان مكشوف وكاشف، تتلازم فيه موضوعتان هما البحر والمرأة، وحنا مينة يدرك جيدا هذا التلازم، ويذهب الي ان المرأة اعمق من البحر، فهي كائن غامض ومجهول اكثر من غموض البحر، لقد انتهت البنية التركيبية للعنوان بضمير المؤنث الغائب، والضمير نحويا يحيل الي شيء غائب، فهل هذه المرأة غائبة في فضاء الرواية ام في وعي البطل؟ انها الغائبة الحاضرة في مسار الرواية حتي النهاية.
واذا كان البطل غائبا هو الآخر في بنية العنوان السطحية، فانه حاضر كمحرك لمسارات الاحداث، وغيابه بمثابة تماه مع البحر، لذلك بأره في البنية التركيبية، جاء علي لسان البطل احب البحر حين اكون انا هو البحر . وتأتي السفينة موقعيا متوسطة البحر والمرأة، لانها هي الفضاء الرئيسي الذي دارت فيه الاحداث.
1 ـ تتبع الحدث:
تحكي الرواية عن رحلة من بيروت الي مارسيليا، علي متن سفينة تدعي سانتا ماريا . وتضم مجموعة من اللبنانيين، والاجانب (طليان، دانماركيين، اسكتلانديين) لتذكرنا بتايتينك ، كانت الرحلة بعيد الحرب الاهلية في لبنان، ولذلك ساد جو التوتر علي مسار الاحداث وعلي مستوي الخطاب الروائي. بطل الرواية يدعي بدر الزرقا ، فرمزية الاسم تشي باكتمال دائرة البطل، واللون الازرق يرمز الي البحر، اذا البطل منذ البداية يظهر في الرواية مندمجا مع البحر حد التماهي، فهو شبيه بسنتياغو عند هيمنغواي، او زوربا عند كازانتزاكي. درس في كلية الآداب وتخرج ليعمل مدرسا للادب العربي في جبل عامل في الجنوب اللبناني، شاهد البؤس عيانا فحاول النضال ضده، لكن الاقطاع كان له بالمرصاد، واتهم بنشر الافكار الهدامة، فدخل السجن، لما خرج ابعد الي الكورة في الشمال، وفي هذه المنطقة تكررت مأساته لان البؤس كان هناك، فلما ضاقوا به ذرعا وبأفكاره سرحته وزارة التربية. فقرر ان يترك البر ليلتحق بالبحر، التحق بالكلية البحرية في اثينا، فتخرج قبطانا ليكتشف ان البؤس في البحر لا يقل عنه في البر، وان الاستغلال هوهو، وهو يبحر في البحر الاحمر ارتطمت السفينة التي كان يقودها بالشعب المرجانية فتحطمت. فسرحوه مرة اخري، لم يستطع التخلي عن البحر فعاد اليه ثانية ولكن فقط كمسافر، وفي اصراره علي العودة الي البحر نتذكر سنتياغو الذي لم يحصل علي طائل رغم معاناته وصراعه فانه قد قرر ان يعود الي البحر من جديد، ان فضاء البحر هو فضاء الاصرار والتحدي بامتياز.
تنفتح الرواية علي حوار داخلي للبطل، يختزل ماضي البطل وحاضره، ماضيه كقبطان يصارع الموج والعواصف البحرية، وحاضره كقبطان عاطل يتعرف علي البحر كسائح في سن الشيخوخة، ويختبئ في قمرته ما ان تهتز السفينة اهتزازا مريبا (ص 5)، ثم بعد ذلك تظهر الي مسرح الاحداث فتاة يابسة العود، تدعي لويزا، اعصابها مستنفرة، قفة عظام، عانس، خريجة شعبة التاريخ، متسائلة عن احوال الطقس، بادر بدر الزرقا مجيبا لن تأتي عاصفة في الثماني والاربعين ساعة القادمة، لكنه في الان نفسه تمني ان تأتي عاصفة بحرية ليتفرج عليها؟ هذه الامنية الشاذة اغاضت لويزا وانفجرت غاضبة تلعن بدرا وكل الذين تدخلوا لانهاء موجة غضبها. لقد برر بدر امنيته هذه بقوله اننا بحاجة الي ايقاظ حتي نفتح عيوننا علي ما حولنا، فالعاصفة هنا معادل لمنبه، ولرجة توقظ ركاب السفينة من غفلتهم، وهنا يبدو ان الروائي يعمد الي رمزية كبري فالركاب والسفينة والبحر توحي الي المجتمع العربي الذي يحتاج الي رجة كبري توقظه من سباته العميق، ويوجد في المجتمع اشباه لويزا الذين استحلوا الركود والطمأنينة وسلبية الفعل. بعد هذا الشجار مع لويزا اختفي بدر وراح ينتقل بين سطح السفينة ليتمتع بمنظر البحر وبين البار والكافيتريا وقمرته. وسيلتقي بمجموعة من الادباء منهم الشاعرة والقاص والفنانة التشكيلية، وسيلتقي باستاذته في الجامعة وبغيداء التي درست معه. كانت غيداء فاتنة الجمال وكان يكن لها حبا عميقا، غير ان طبعه لم يسمح له بملاحقتها لانها كانت دائما محاطة بالمعجبين، طيلة الرحلة لم يأبه لها كان يشيح بوجهه عنها، محدثا نفسه انها ستكون له، بدون اي جهد يبذله تجاهها الا تجاهلها، وقد صمد في هذا المسار، كان بدر في السفينة يقوم بدور القبطان، ساهرا علي سلامة المسافرين، وقد تجلي ذلك في اسعافهم حينما هبت ريح جعلت السفينة تتأرجح فأصيب اغلب المسافرين بدوار البحر، كما انه كان يفض النزاعات والمشاجرات، فقد تدخل تدخُّل الابطال لما تحرش الايطالي ألبرتو باللبنانية هزار ، فنزع السكين من يده وصرفه من الكافيتريا. كان بدر اغلب الاوقات يحتسي الويسكي عند البارمان غابور . التقي بدر بأمرأة دانماركية تدعي جان توليب . وهي فنانة تشكيلية، كان يقضي معها جل الوقت عند غابور يكرعان الخمرة. ويمارس واياها الحب في قمرتها، في الفصل 17 من الرواية سيفترقان لان توليب كشفت ضعفه فهو قد تهالك امام جسدها الفاتن بوضاعة، وليست هذه الحالة من شيم القبطان الذي علمه البحر الصبر فيمثل هذه المواقف، ان انتهاء علاقته مع توليب هو بداية انتصاره في مصارعة المرأة باعتبارها صيدا ففي حوار مع غابور يقول هناك سمكات جميلات علي الباخرة، ومن كل الاعمار، واضاف، الصياد الماهر يا صديقي، يتحلي بصبر جيد.. ولدي صبر لا ينفذ انها التجارب . في هذه المحاورة نلاحظ ان بدرا اصبح ظلا مشوها لسانتياغو فهذا الاخير يعاني ويعالج اصطياد سمكة كبيرة في وسط البحر، في حين ان بدر اكتفي باصطياد سمكة علي ظهر السفينة، ان السمكة التي كان يطاردها بدر هي غيداء، وقد استطاعت استاذة بدر وغيداء وهي شاعرة ان ترتب لقاء لهما مزيلة بذلك الكلفة بينهما، فكلاهما تمنعه انفته من ان يبادر باعلان الحب المرجئ، واخيرا يظهر بدر بصيده، ويطلب من غيداء الزواج فور وصولهما الي مارسيليا واستقلا طائرة وعادا الي بيروت.
2 ـ البناء الفسيفسائي للرواية:
تشكلت الرواية من تسعة عشر فصلا صغيرا، تنامت فيها الاحداث بشكل تصاعدي، وقد تخللا السرد مقاطع من الحوارات الداخلية والحوارات المباشرة والوصف، وتأسست فيها الشخصيات بشكل تصاعدي، اذ لم تقدم الشخصيات بطريقة جاهزة، وقد تخلل الرواية الحديث عن الحرب الاهلية اللبنانية ونتائجها علي الشخصية اللبنانية، وقد تمحور خطاب الرواية حول بطل متشبع بالفكر الماركسي يقول بدر: لكنا محكومون بالاشغال الشاقة الناقدة، ومساقون الي مسلخ التفاوت الطبقي لا مخرج سوي الكفاح والنضال .
لقد عكست هذه الرواية خلاصة تجربة حنا مينة من الناحية الايديولوجية، فهو من كتاب الواقعية الاشتراكية، ورواياته شهادة علي عظمة الواقعية وعلي قدرتها اللانهائية في الاستعانة بمختلف المدارس التعبيرية، دون ان تفقد الواقعية هويتها المتميزة وحنا مينة يتحاشي في عمله دائما ثلاثة اشياء: الاسقاط الفكري والافتعال والصراخ. فهو يرفض الافكار الجاهزة سواء في الحوار او في بناء الشخصيات او في نمو الاحداث.
وتعكس هذه الرواية ايضا اختيار التجربة كأساس للابداع الروائي، فبدر الزرقا بطل الرواية المركزي بدأ متعلما فطلق الأدب ليمتهن الحياة .
ومع كل هذا فرواية حنا مينة الاخيرة البحر، السفينة وهي تتقاطع مع رواية زوربا ، اذ ان شخصية بدر الزرقا احيطت منذ البداية بأدباء وفنانين كانوا في حاجة لبدر ليكون دليلهم في الرحلة، وكانت غرابة اقواله وتصرفاته تدهش الحاضرين في السفينة. وتتقاطع كذلك مع رواية الشيخ والبحر لهيمنغواي فبدر الزرقا يشبه سنتياغو المضي علي الحصول علي صيد ثمين، فسنتياغو بعد عراكه القاسي مع الحوت ظفر بهيكل عظمي، وبدر بعد صمود طويل سيظفر بامرأة، وتلوح من بعيد اواصر قربي بين هذه الرواية وقصة تايتنك، غير ان سفينة حنا مينة لم تبتلعها مياه البحر.
كاتب من المغرب
قدمت هذه الورقة في ندوة الكتابة والبحر التي نظمها اتحاد كتاب المغرب فرع آسفي، بمدينة آسفي.
المراجع:
1 ـ البحر، السفينة وهي!، حنا مينة، دار الاداب بيروت 2003.
2 ـ Chevelien, Dichonnaire deymboles, P420.
3 ـ صيادو الذاكرة، رضوي عاشور.
4 ـ ale ka دينو بوزاتي.
5 ـ هواجس في التجربة الروائية. حنا مينة، دار الاداب بيروت.
0
QPT3
ويعتبر الفضاء البحري من الفضاءات الخصبة التي تم استثمارها في روايات خالدة، خلود البحر في اغرائه ومجهوليته. فهذه الكرة المائية ـ التي يدعوها الجغرافيون خطأ الكرة الارضية ـ لا تشكل فيها اليابسة سوي نزر يسير، هي شبيهة بكشبان ملقي في صحراء. او لنقل اننا نمتلك اليابسة في حين ان البحر يمتلكنا.
وبذلك فالبحر بنشيده الذي لا يمل تكراره، وبكائناته الحقيقية والاسطورية يجتذب الانسان نحو المغامرة والمقامرة كما فعل سندباد وأوليس. ولذلك نجد البحر قد تشكل في مخيال الانسان برموز عديدة، ودلالات كونية.
اذا رجعنا الي معجم الرموز نجد ان مؤلفيه استطاعا ان يستقصيا اهم رمزيات البحر في الثقافات، والصور النمطية حوله. فقد ذهبا الي ان البحر رمز لدينامية الحياة، فالكل خرج من البحر واليه يعود: انه مكان للولادات والتحولات والانبعاثات. ويرمز الي الحالة الانتقالية بين الممكنات التي مازالت غير متشكلة والحقائق المشكلة، انه وضعية متحركة، وضعية اللايقين والشك، من هنا يكون البحر في الان نفسه صورة للحياة وصورة للموت، فالقدماء كانوا يهبون للبحر اضحيات من الخيل والثيران، وهذه نفسها رموز للخصوبة، لكن من قاع البحر تبزغ وحوش هي رمز لصورة العقل الباطني . (معجم الرموز، باب البحر، ص 420).
ففي الميثولوجيا الايرلندية، مثلا جاءت الالهة عبر البحر، وعبر البحر سنذهب الي العالم الآخر. وقد جاء في التوراة ان مشاهد القيامة يتغني بالعالم الجديد حيث لا وجود للبحر البتة. وفي القرآن الكريم، هناك حديث عن البحر المسجور، أي المحترق، كعلامة علي الدخول الي العالم الآخر. ويرمز البحر عند المتصوفة للعالم وللقلب الانساني، باعتباره مقرا للعواطف. فالبحر رمز للحياة العليا، للجوهر الالهي، يقول الصوفي المغربي الشهير عبد السلام بن مشيش باقيانوس الوحدة الالهية ، ويقول عبد الكريم الجيلي بأقيانوس المجد الالهي ، وحسب الشهبتري الاقيانوس هو القلب والمعرفة، والساحل هو الغنوص، والقوقعة هي اللغة، والجوهرة بداخلها هي علم القلب، اي المعني السري للغة.
لقد ارتبطت دلالة البحر بالخصوبة والعطاء، فأشتقت للبحر كلمة في العربية تشير للامومة وهي كلمة اليم ، وبالفرنسية هناك جناس بارز بين Mere (ام) وMer (بحر).
ان هذه الرمزيات المتعددة والمتنوعة، كانت لها جاذبية خاصة في الابداع بصفة عامة وفي الكتابات الروائية بصفة خاصة. فنماذج عديدة من الروايات العالمية استثمرت هذه الرمزيات مثل روايات ميلفيل وكونراد، وهيمنغواي، ونيكوس كازانتزاكي وغيرهم، ولعل رواية الشيخ والبحر رائعة هيمنغواي، هي الرواية التي استأثرت باهتمام النقاد، وهي تحكي عن خروج الملاح سنتياغو الي البحر منفردا، بعد اربعة وثمانين يوما استعصي عليه الصيد فيها، وهو يقرر ـ كبطل في مأساة اغريقية قديمة ـ ان يتوغل في البحر، متعديا حدود الآمن والمألوف، وهو شيخ يحمل علي وجهه وجسده خاتم البحر الذي عركه، التجاعيد العميقة والقروح والندوب كان كل شيء فيه عجوزا خلا عينيه، كان لونهما مثل لون البحر، وكانتا مبتهجتين باسلتين. ولسانتياغو مريد صغير، يحب معلمه الشيخ، ويرغب في مصاحبته، لكن اهله يمنعونه وينقلونه علي ظهر مركب اوفر حظا.
لقد افاض نقاد هيمنغواي في الحديث عن الرمز والمفارقة في الشيخ والبحر ، وعن مبناها الذي يشبه القصص الرمزية في العهد الجديد. فالهيكل العظمي الممد في نهاية الكتاب والرحلة، الذي يوحي للوهلة الاولي، بأن حصاد التجربة لا يختلف كثيرا عن حكمة سفر الجامعة في العهد القديم علي لسان النبي سليمان عليه السلام: الكل باطل وقبض ريح . فالرحلة انتهت باللاشيء، ولكن سلوك سنتياغو المتمثل في عناده واصراره علي العودة الي البحر مرة اخري، هي التي ترجح كفة الوجود علي العدم (صيادو الذاكرة، رضوي عاشور، ص 29).
ان رواية هيمنغواي لبساطة سردها وعمقها الفكري والفلسفي كانت محط اهتمام النقاد والمترجمين والمبدعين، فتمت محاكاتها ومعارضتها في نصوص بارزة، ومن اهم النصوص التي عارضت هذه الرواية هي رواية الكاتب الروسي جنكيز ايتماتوف الكلب الابيض الراكض علي حافة البحر ، وقصة الكاتب الايطالي الشهير دينو بوزاتي بعنوان ale ka . وفي الاتجاه المعاكس تذهب الروائية المصرية رضوي عاشور الي ان رواية الشيخ والبحر هي ـ من احدي الزوايا ـ معارضة لنص الشاعر الانكليزي كولريدج الملاح القديم ، وهي من ابرز القصائد الانكليزية التي ترتكز الي مفهوم وحدة الوجود (الانسان والبحر، ص 25).
واذا ما التفتنا الي المشهد الروائي العربي، فاننا نجد ان الروائي السوري حنا مينة هو روائي البحر بلا منازع، ففي معرض حديثه عن عالمه الروائي يقول: ان ملامح هذا العالم تتجلي فيما كتبته عن البحر، يقول النقاد انني اديب البحر، وانا سعيد بهذه الصفة، لكن عالم البحر من السعة والشمول بحيث لا تغطي مساهمتي الروائية الا حيزا ضيقا من مساحته الشاسعة، وعلي هذا فالموضوع يحتاج الي مناقشة (هواجس في التجربة الروائية، حنا مينة، ص 5).
ويعتبر حنا مينة نفسه سباقا لموضوعات لم تثرها الرواية العربية قبله، يقول: الاشياء التي تناولتها في رواياتي كانت مناطق جديدة في الرواية العربية، منها البحر، والغابة، والمعركة الحربية، ففي البحر كتبت الشراع والعاصفة ، وجملة اشياء، وفي الغابة كتبت الياطر وغيرها، وفي المعركة الحربية كتبت المرصد ، وازعم انه في الادب العربي لم تطرق هذه الموضوعات بالشكل الذي طرقتها فيه، لانها عندي اتخذت رحابة عوالم كاملة، ويكفي ان يقرأها المرء كي يقول: اعرف البحر والغابة والحرب، (المرجع نفسه ص6). ويؤكد حنا مينة علي انه حين اطلع علي روايات هيمنغواي عشقها ولا يزال، لكن فكرة تقليد اسلوب هيمنغواي لم تخطر له ببال، رغم ان عالم البحر هو القاسم المشترك بينهما، يصرح قائلا: لقد انجزت روايتي الشراع والعاصفة عام 1958، وكنت قد بدأتها عام 1956 اثر العدوان الثلاثي علي مصر، والضجة التي ثارت حول بطولة البحارة العرب، وبعد سنوات اطلعت علي رواية الشيخ والبحر ولم استشعر ايما اسف لانني كتبت الشراع قبل ان اطلع عليها، فالشراع كانت مُرضية بالنسبة الي، وان كنت قد تشردت عام 1959 ولم استطع نشر روايتي الا عام 1963 لاول مرة (نفس المرجع ص 8).
في هذه الدراسة سنحاول ملامسة عالم البحر واشتغاله في الرواية الاخيرة لحنا مينة المعنونة البحر والسفينة وهي! . الصادرة عن دار الآداب، والعنوان لا يحتاج الي عناء تفكير، فهو عنوان مكشوف وكاشف، تتلازم فيه موضوعتان هما البحر والمرأة، وحنا مينة يدرك جيدا هذا التلازم، ويذهب الي ان المرأة اعمق من البحر، فهي كائن غامض ومجهول اكثر من غموض البحر، لقد انتهت البنية التركيبية للعنوان بضمير المؤنث الغائب، والضمير نحويا يحيل الي شيء غائب، فهل هذه المرأة غائبة في فضاء الرواية ام في وعي البطل؟ انها الغائبة الحاضرة في مسار الرواية حتي النهاية.
واذا كان البطل غائبا هو الآخر في بنية العنوان السطحية، فانه حاضر كمحرك لمسارات الاحداث، وغيابه بمثابة تماه مع البحر، لذلك بأره في البنية التركيبية، جاء علي لسان البطل احب البحر حين اكون انا هو البحر . وتأتي السفينة موقعيا متوسطة البحر والمرأة، لانها هي الفضاء الرئيسي الذي دارت فيه الاحداث.
1 ـ تتبع الحدث:
تحكي الرواية عن رحلة من بيروت الي مارسيليا، علي متن سفينة تدعي سانتا ماريا . وتضم مجموعة من اللبنانيين، والاجانب (طليان، دانماركيين، اسكتلانديين) لتذكرنا بتايتينك ، كانت الرحلة بعيد الحرب الاهلية في لبنان، ولذلك ساد جو التوتر علي مسار الاحداث وعلي مستوي الخطاب الروائي. بطل الرواية يدعي بدر الزرقا ، فرمزية الاسم تشي باكتمال دائرة البطل، واللون الازرق يرمز الي البحر، اذا البطل منذ البداية يظهر في الرواية مندمجا مع البحر حد التماهي، فهو شبيه بسنتياغو عند هيمنغواي، او زوربا عند كازانتزاكي. درس في كلية الآداب وتخرج ليعمل مدرسا للادب العربي في جبل عامل في الجنوب اللبناني، شاهد البؤس عيانا فحاول النضال ضده، لكن الاقطاع كان له بالمرصاد، واتهم بنشر الافكار الهدامة، فدخل السجن، لما خرج ابعد الي الكورة في الشمال، وفي هذه المنطقة تكررت مأساته لان البؤس كان هناك، فلما ضاقوا به ذرعا وبأفكاره سرحته وزارة التربية. فقرر ان يترك البر ليلتحق بالبحر، التحق بالكلية البحرية في اثينا، فتخرج قبطانا ليكتشف ان البؤس في البحر لا يقل عنه في البر، وان الاستغلال هوهو، وهو يبحر في البحر الاحمر ارتطمت السفينة التي كان يقودها بالشعب المرجانية فتحطمت. فسرحوه مرة اخري، لم يستطع التخلي عن البحر فعاد اليه ثانية ولكن فقط كمسافر، وفي اصراره علي العودة الي البحر نتذكر سنتياغو الذي لم يحصل علي طائل رغم معاناته وصراعه فانه قد قرر ان يعود الي البحر من جديد، ان فضاء البحر هو فضاء الاصرار والتحدي بامتياز.
تنفتح الرواية علي حوار داخلي للبطل، يختزل ماضي البطل وحاضره، ماضيه كقبطان يصارع الموج والعواصف البحرية، وحاضره كقبطان عاطل يتعرف علي البحر كسائح في سن الشيخوخة، ويختبئ في قمرته ما ان تهتز السفينة اهتزازا مريبا (ص 5)، ثم بعد ذلك تظهر الي مسرح الاحداث فتاة يابسة العود، تدعي لويزا، اعصابها مستنفرة، قفة عظام، عانس، خريجة شعبة التاريخ، متسائلة عن احوال الطقس، بادر بدر الزرقا مجيبا لن تأتي عاصفة في الثماني والاربعين ساعة القادمة، لكنه في الان نفسه تمني ان تأتي عاصفة بحرية ليتفرج عليها؟ هذه الامنية الشاذة اغاضت لويزا وانفجرت غاضبة تلعن بدرا وكل الذين تدخلوا لانهاء موجة غضبها. لقد برر بدر امنيته هذه بقوله اننا بحاجة الي ايقاظ حتي نفتح عيوننا علي ما حولنا، فالعاصفة هنا معادل لمنبه، ولرجة توقظ ركاب السفينة من غفلتهم، وهنا يبدو ان الروائي يعمد الي رمزية كبري فالركاب والسفينة والبحر توحي الي المجتمع العربي الذي يحتاج الي رجة كبري توقظه من سباته العميق، ويوجد في المجتمع اشباه لويزا الذين استحلوا الركود والطمأنينة وسلبية الفعل. بعد هذا الشجار مع لويزا اختفي بدر وراح ينتقل بين سطح السفينة ليتمتع بمنظر البحر وبين البار والكافيتريا وقمرته. وسيلتقي بمجموعة من الادباء منهم الشاعرة والقاص والفنانة التشكيلية، وسيلتقي باستاذته في الجامعة وبغيداء التي درست معه. كانت غيداء فاتنة الجمال وكان يكن لها حبا عميقا، غير ان طبعه لم يسمح له بملاحقتها لانها كانت دائما محاطة بالمعجبين، طيلة الرحلة لم يأبه لها كان يشيح بوجهه عنها، محدثا نفسه انها ستكون له، بدون اي جهد يبذله تجاهها الا تجاهلها، وقد صمد في هذا المسار، كان بدر في السفينة يقوم بدور القبطان، ساهرا علي سلامة المسافرين، وقد تجلي ذلك في اسعافهم حينما هبت ريح جعلت السفينة تتأرجح فأصيب اغلب المسافرين بدوار البحر، كما انه كان يفض النزاعات والمشاجرات، فقد تدخل تدخُّل الابطال لما تحرش الايطالي ألبرتو باللبنانية هزار ، فنزع السكين من يده وصرفه من الكافيتريا. كان بدر اغلب الاوقات يحتسي الويسكي عند البارمان غابور . التقي بدر بأمرأة دانماركية تدعي جان توليب . وهي فنانة تشكيلية، كان يقضي معها جل الوقت عند غابور يكرعان الخمرة. ويمارس واياها الحب في قمرتها، في الفصل 17 من الرواية سيفترقان لان توليب كشفت ضعفه فهو قد تهالك امام جسدها الفاتن بوضاعة، وليست هذه الحالة من شيم القبطان الذي علمه البحر الصبر فيمثل هذه المواقف، ان انتهاء علاقته مع توليب هو بداية انتصاره في مصارعة المرأة باعتبارها صيدا ففي حوار مع غابور يقول هناك سمكات جميلات علي الباخرة، ومن كل الاعمار، واضاف، الصياد الماهر يا صديقي، يتحلي بصبر جيد.. ولدي صبر لا ينفذ انها التجارب . في هذه المحاورة نلاحظ ان بدرا اصبح ظلا مشوها لسانتياغو فهذا الاخير يعاني ويعالج اصطياد سمكة كبيرة في وسط البحر، في حين ان بدر اكتفي باصطياد سمكة علي ظهر السفينة، ان السمكة التي كان يطاردها بدر هي غيداء، وقد استطاعت استاذة بدر وغيداء وهي شاعرة ان ترتب لقاء لهما مزيلة بذلك الكلفة بينهما، فكلاهما تمنعه انفته من ان يبادر باعلان الحب المرجئ، واخيرا يظهر بدر بصيده، ويطلب من غيداء الزواج فور وصولهما الي مارسيليا واستقلا طائرة وعادا الي بيروت.
2 ـ البناء الفسيفسائي للرواية:
تشكلت الرواية من تسعة عشر فصلا صغيرا، تنامت فيها الاحداث بشكل تصاعدي، وقد تخللا السرد مقاطع من الحوارات الداخلية والحوارات المباشرة والوصف، وتأسست فيها الشخصيات بشكل تصاعدي، اذ لم تقدم الشخصيات بطريقة جاهزة، وقد تخلل الرواية الحديث عن الحرب الاهلية اللبنانية ونتائجها علي الشخصية اللبنانية، وقد تمحور خطاب الرواية حول بطل متشبع بالفكر الماركسي يقول بدر: لكنا محكومون بالاشغال الشاقة الناقدة، ومساقون الي مسلخ التفاوت الطبقي لا مخرج سوي الكفاح والنضال .
لقد عكست هذه الرواية خلاصة تجربة حنا مينة من الناحية الايديولوجية، فهو من كتاب الواقعية الاشتراكية، ورواياته شهادة علي عظمة الواقعية وعلي قدرتها اللانهائية في الاستعانة بمختلف المدارس التعبيرية، دون ان تفقد الواقعية هويتها المتميزة وحنا مينة يتحاشي في عمله دائما ثلاثة اشياء: الاسقاط الفكري والافتعال والصراخ. فهو يرفض الافكار الجاهزة سواء في الحوار او في بناء الشخصيات او في نمو الاحداث.
وتعكس هذه الرواية ايضا اختيار التجربة كأساس للابداع الروائي، فبدر الزرقا بطل الرواية المركزي بدأ متعلما فطلق الأدب ليمتهن الحياة .
ومع كل هذا فرواية حنا مينة الاخيرة البحر، السفينة وهي تتقاطع مع رواية زوربا ، اذ ان شخصية بدر الزرقا احيطت منذ البداية بأدباء وفنانين كانوا في حاجة لبدر ليكون دليلهم في الرحلة، وكانت غرابة اقواله وتصرفاته تدهش الحاضرين في السفينة. وتتقاطع كذلك مع رواية الشيخ والبحر لهيمنغواي فبدر الزرقا يشبه سنتياغو المضي علي الحصول علي صيد ثمين، فسنتياغو بعد عراكه القاسي مع الحوت ظفر بهيكل عظمي، وبدر بعد صمود طويل سيظفر بامرأة، وتلوح من بعيد اواصر قربي بين هذه الرواية وقصة تايتنك، غير ان سفينة حنا مينة لم تبتلعها مياه البحر.
كاتب من المغرب
قدمت هذه الورقة في ندوة الكتابة والبحر التي نظمها اتحاد كتاب المغرب فرع آسفي، بمدينة آسفي.
المراجع:
1 ـ البحر، السفينة وهي!، حنا مينة، دار الاداب بيروت 2003.
2 ـ Chevelien, Dichonnaire deymboles, P420.
3 ـ صيادو الذاكرة، رضوي عاشور.
4 ـ ale ka دينو بوزاتي.
5 ـ هواجس في التجربة الروائية. حنا مينة، دار الاداب بيروت.
0
QPT3
وتعكس هذه الرواية ايضا اختيار التجربة كأساس للابداع الروائي، فبدر الزرقا بطل الرواية المركزي بدأ متعلما فطلق الأدب ليمتهن الحياة .
ومع كل هذا فرواية حنا مينة الاخيرة البحر، السفينة وهي تتقاطع مع رواية زوربا ، اذ ان شخصية بدر الزرقا احيطت منذ البداية بأدباء وفنانين كانوا في حاجة لبدر ليكون دليلهم في الرحلة، وكانت غرابة اقواله وتصرفاته تدهش الحاضرين في السفينة. وتتقاطع كذلك مع رواية الشيخ والبحر لهيمنغواي فبدر الزرقا يشبه سنتياغو المضي علي الحصول علي صيد ثمين، فسنتياغو بعد عراكه القاسي مع الحوت ظفر بهيكل عظمي، وبدر بعد صمود طويل سيظفر بامرأة، وتلوح من بعيد اواصر قربي بين هذه الرواية وقصة تايتنك، غير ان سفينة حنا مينة لم تبتلعها مياه البحر.
كاتب من المغرب
قدمت هذه الورقة في ندوة الكتابة والبحر التي نظمها اتحاد كتاب المغرب فرع آسفي، بمدينة آسفي.
المراجع:
1 ـ البحر، السفينة وهي!، حنا مينة، دار الاداب بيروت 2003.
2 ـ Chevelien, Dichonnaire deymboles, P420.
3 ـ صيادو الذاكرة، رضوي عاشور.
4 ـ ale ka دينو بوزاتي.
5 ـ هواجس في التجربة الروائية. حنا مينة، دار الاداب بيروت.
0QPT3
السبت، 28 سبتمبر 2013
أقرأ كتابا لكاتب إسباني فأستغرب عدم ترجمته إلى العربية
الناقد والمترجم محمد آيت لعميم: القراءة
باتت ترتبط في أذهان الشباب بعدم الفعالية
الرباط: آمال أبو
العلاء
محمد آيت لعميم،
ناقد ومترجم حاصل على الدكتوراه في النقد الأدبي، صدر له كتاب «بورخيس أسطورة
الأدب»، وكتاب «المتنبي الروح القلقة والترحال الأبدي»، وكتاب «مقاطع وسور من
القرآن»، الذي ترجمه إلى الفرنسية مع الروائي الفرنسي ميشال أورسيل، وله قيد
الطبع، كتاب «قصيدة النثر العربية.. إيقاع المعنى وذكاء الكلم».
* ماذا تفعل حاليا؟
- أنهيت ترجمة حوار
نقدي للناقد الإيطالي الكبير بيترو شيتاتي، ومقالة حول أعمال كونديرا، وترجمة
بعض النصوص القصصية القصيرة للكاتب الأرجنتيني الشاب إدواردو بيرتي.
* ماذا تقرأ؟
- أقرأ مجموعة من
الأعمال الروائية والنقدية ونصوصا للجاحظ، وديوان «ذهب النمور» لبورخيس، وأعيد
قراءة رواية «ظل الريح» و«مارينة» للكاتب الإسباني الشاب كارلوس رويس ثافون.
* لماذا وقع اختيارك
على ظل الريح أول مرة؟
- لم أختره، وإنما
اكتشفته، وأعجب لماذا لم يترجم إلى العربية حتى الآن، خاصة أنه ترجم إلى أغلب
اللغات العالمية. أحببت عمل ثافون، لأنه تمكن من إبداع عمل روائي رائع من داخل
تاريخ الرواية، تناول فيه قصة تلقين الأب لابنه كيفية التعامل مع الكتب، حيث
قاده إلى مقبرة الكتب القديمة.
* هل هناك مشروع
قريب؟
- المشروع نبدأ به
ويولد معنا، ويكون في البداية شبيها بمشهد ضبابي، وشيئا فشيئا تبدأ ملامحه تظهر
مع ما ننجزه، ومن لا مشروع له لا يستمر في الكتابة، وإن استمر فإنه يكرر ذاته،
المشروع يبنى لبنة لبنة. أما ما سأنجزه قريبا، فهو إصدار كتابي حول «قصيدة النثر
العربية الشكل والدلالة».
* كيف ترى الإبداع
المغاربي راهنا؟
- الأدب الحقيقي هو
الذي يستشرف، وليست مهمته ملاحقة الأحداث، فلن نطالب من الأدب المغاربي بأن
ينخرط في الأحداث وهي تصير، وإنما بأن يبدع لنا عوالم ويفتح لنا آفاقا، ويخلق
لدينا إحساسا بالجمال نتجاوز به قبح الواقع.
* دور تعتقد أن
اتحاد كتاب المغرب يفترض أن يلعبه؟
- اتحاد كتاب المغرب
جمعية ثقافية عريقة، تضم نخبة من الكتاب المغاربة الذين بصموا الفكر والأدب
والإبداع عربيا ووطنيا ودوليا، وله أدوار مهمة في إرساء ثقافة الحوار والإنصات
لكل الأصوات، والدفاع عن حقوق الكتاب.
* كيف تفسر تراجع
مستوى القراءة؟
- مشكلة القراءة
بنيوية يمكن أن نصف أعراضها وبعض الأسباب الثانوية وراءها، من بينها أن المؤسسات
التعليمية لم تعد كما كانت في السابق، تشجع على القراءة والشغف بها، إضافة إلى
أن مواطن الاهتمام تحولت لصالح المسموع والمرئي وإلى ثقافة الصورة، زيادة على أن
مفهوم النموذج وقعت زحزحته، فالقراءة وما إليها، بدأت ترتبط في أذهان الناس بعدم
الإنتاجية والفعالية الاجتماعية، فأصبح النموذج مثلا لدى الشباب ينحصر في لاعب
كرة قدم يربح بضربة حظ ثروة خيالية، أو مطرب يصير بين عشية وضحاها نجما، فهذا
التحول للوظيفة والإنتاجية وتحقيق الربح السريع جعل القراءة وما إليها يتراجع
إلى دور التسلية فقط.
* ما هو الحل؟
- ليس هناك من حل
سوى الإرادة الفردية والإرادة الجماعية للنهوض بهذا القطاع الحيوي، ولا حل لهذا
التراجع إلا بالانخراط في القراءة بمختلف مستوياتها.
|
الاشتراك في:
الرسائل
(Atom)
الصفحات
- اتصل بنا (1)
- الصفحة الرئيسية (1)
- ترجمة (1)
- دراسات نقدية (1)
- صور شخصية (1)
- من انا (1)
- مواقع صديقة (1)
- يوتيوب (2)
الزيارات
أرشيف المدونة الإلكترونية
-
▼
2013
(8)
-
▼
سبتمبر
(8)
- دار المأمون تعقد مؤتمرها الدولي الثالث للترجمة بحض...
- حديث الصدى / حوار مع الدكتور محمد ايت لعميم
- قصص ادواردو بيرتي <!--[endif]--> إعد...
- تراجيديا الضياع بين تسلط الأب و فقدان الأم
- قصيدة النثر العربية: إيقاع المعنى وذكاء العبارة ...
- أيها النيلوفر بلا وزن ولا قافية مختارات من الشع...
- المرأة السفينة وهي لحنا مينه: اصداء لـ زوربا و ...
- أقرأ كتابا لكاتب إسباني فأستغرب عدم ت...
-
▼
سبتمبر
(8)